ماذا تفعل بنا العزلة؟ 2-2

إن تجربة ميشيل سيفر المرعبة، بالرغم من ثمنها الباهظ الذي دفعه سيفر من ذاكرته وتوازنه العقلي، إلا أن نتائجها أصبحت حجر الأساس في علم «الساعة البيولوجية»، حيث أثبت أن لدى كل إنسان ساعته الداخلية ذات الإيقاع الخاص، التي يمكنها في ظل الظروف القاسية أن تضبط علاقته بالخارج بعيداً عن الزمن الحقيقي، أما غياب الضوء والدورات الزمنية فيؤثران على النوم، والحالة المزاجية، والإدراك العقلي، وربما هذا هو السبب وراء ارتفاع حالات الاكتئاب والانتحار في البلدان التي تشهد شتاءات طويلة ومعتمة!

إن تجربة العزلة القاسية هذه لم تكن مجرد تجربة علمية، بل إنها كانت تجربة فلسفية عميقة، ورحلة داخل الزمن الداخلي للإنسان، ففي عمق الكهف، حيث لا يوجد شيء سوى نفسك وصدى أفكارك يبدأ العقل في اختراع وقته الخاص، وإعادة ترتيب العلاقة بين الذات والكون والزمن، تبدأ تعيش داخل عقلك بعيداً عن مطاليب جسدك وإيقاعاته ونزواته!

لقد تم توظيف نتائج تجربة سيفر على حالة رواد الفضاء، لأن الظروف التي خضع لها مشابهة تماماً للعزلة الفضائية، كما وظفت لفهم مشاكل النوم، ولتطوير برامج للعاملين في البيئات المعزولة كالمحطات القطبية، والغواصات، والسجون!

لا شك بأن أحد أكبر تحديات التجربة هي عجز الإنسان عن تفكيك لغز الزمن، والإجابة عن التساؤل الكبير: من نحن بعيداً عن الزمن؟ من نحن حين لا نعرف الوقت الذي نعيشه؟ وهل من السهل أن نعيش بشكل طبيعي وسط فراغ وجودي، وزمن هلامي غير محدد، لا يعرف فيه الإنسان متى يبدأ يومه ومتى ينتهي؟

هذه الأسئلة هي ما نقلت التجربة لاحقاً من تجربة فيزيائية بيولوجية، إلى بعد فلسفي أعمق، تغلغل في الزمن الوجودي أكثر من الزمن الفيزيائي الذي تعارفنا على فهمه، والإحساس به بتقسيمه إلى ساعات ودقائق. إنه في ظل غياب الزمن يظهر الإنسان مجرداً وعارياً من عاداته ونظامه وتفاعلاته، ويبدأ بالتصرف حسب إيقاع داخلي خالص، لكنه بطيء عادة أو سريع جداً، بحسب الحالة النفسية للشخص!

لقد كانت التجربة بقدر ما هي مرعبة، فإنها كانت مضيئة وملهمة في الوقت نفسه، ولولا وجود علماء شغوفين وشجعان، ما ذهبت حضارة الإنسان عبر الزمن خطوة واحدة للأمام.