سنحاول معاً أن نفكك مفهوم العزلة بشكل مختلف، كلنا نذكر العزلة التي أجبرنا على دخولها واحتمال وطأتها منذ خمسة أعوام، عندما اجتاح كوكب الأرض وباء مرعب يدعى كورونا. لن ينسى أحد منا ذلك الوباء، ولا ذلك الزمن الثقيل، ولا تلك العزلة الإجبارية التي لا تزال مشاهدها وآثارها ماثلة في مخيلة الجميع. لقد كانت عزلة إجبارية، قبلناها مكرهين حماية لحياتنا وسط سيل جارف من الأخبار عن مخاطر الاختلاط والتلامس مع الآخرين، لقد كانت العزلة الإجبارية طوق النجاة الوحيد!
لكن هناك بالمقابل عزلة اختيارية، يختارها الإنسان بإرادته لأسباب مختلفة: للتأمل والعبادة وللقيام بأعمال تتطلب الكثير من الهدوء والعزلة، إلا أن العالم الفرنسي (ميشيل سيفر) وفي عام 1972 قام بإرادته واختياره بعزل نفسه داخل كهف مظلم تماماً، على عمق 134 متراً تحت الأرض، ولمدة 6 أشهر! لكن لماذا؟
ميشيل سيفر، عالم فرنسي وُلد عام 1939 وتخصص في عوالم الكهوف والجيوفيزياء، لم يكن مجرد عالم تقليدي، بل كان مستكشفاً شغوفاً بمزج العلم بالمغامرة، بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه نظير ذلك. بدأ اهتمامه بالكهوف منذ شبابه، ثم تحوّل هذا الاهتمام إلى تساؤلات فلسفية وعلمية حول العزلة، والوعي، والزمن.
كان يعتقد أن مفتاح فهم العقل البشري يكمن في علاقته بالزمن. ولتأكيد نظريته، قرر تنفيذ واحدة من أغرب وأقسى التجارب: العزلة في كهف عميق بعيد كلية عن الضوء والشمس ودورة الحياة الطبيعية، وذلك اختباراً للعقل في علاقته بالزمن، كان يريد معرفة: كيف يتفاعل العقل مع العزلة الكاملة؟ ماذا يحدث عندما يُقطع الإنسان عن دورات الليل والنهار الطبيعية؟ وكيف سينعكس ذلك عليه، جسدياً وعقلياً ونفسياً واجتماعياً؟ ولقد كان أول الآثار فقدانه للذاكرة، وتعرضه لحالة اكتئاب ظل يعالج من آثارها طوال حياته!
كانت تجربة ميشيل سيفر، واحدة من أكثر التجارب العلمية إثارة وغرابة في القرن العشرين، لأنها سيف، لم يختبر حدود جسده فقط، بل إنها دفعته للغوص عميقاً في لغز الزمن نفسه، وفي الكيفية التي يدرك بها الإنسان مرور الوقت دون أي مرجع خارجي، أي بعيداً عن دورة الأرض والشمس وتعاقب الليل والنهار!