حين يتخلل كتابَ السرد الأدبي الروائي أسلوبٌ دراميٌ ووجدانيٌ خالص، ضمن الحكاية المسرودة، فمن السهل تحويله من عمل روائي إلى مسرحية غنائية أو أوبرا، وحتى مسلسل غنائي... ويطلق على هذا النوع من السرد شكل من أشكال المسرح الغنائي، طالما الغناء فيه ينتصر للحب والجمال والإنسان... وبالتالي، يتحول السرد إلى تعبير خيالي آخر، يُفَعّل فيه الأصوات الغنائية والموسيقى والرقص والإبداعات الأخرى، مثل مشاهد الأزياء وفن التمثيل والإيماءات... حتى يتراءى للقارئ والمُشاهد جمال هذا الخيال النثري والسردي، كيف أصبح شعراً قصصياً، ومُغناة بشكل شرعي، وبتعبير آخر: الخيال يغني، وقد أتى هذا الابتداع من أوروبا، وبالتحديد إيطاليا، وفي عصر نهضتها الأولى، وينتشر في العالم كله.
قادت هذه التجربة المبدعين إلى سفرٍ فني شيق، بعد أن وهبوا ترفهم الجمالي، ومن خلال قراءة عمل سردي، ليحولوه بفعالية حقيقية وصادقة إلى فن يحتفي بالمشاعر، وإيجاد تعبير جمالي غنائي للتجربة، محققاً التأثير الأكثر شيوعاً في أحلام الإنسان ورونقها، ويصبح مفهوم السرد على المسرح، وكأنه يُفجر المشاعر الإنسانية من الخيال إلى الغناء، وبالتالي، يرتد عرضاً كاملاً ومكتملاً، يبين الحوار والغضب والحب والشفقة، وكل العواطف تتحول إلى رقص وغناء وتمثيل وموسيقى... بصورة إبداعية حيّة.
لا شك أن اللغة الشعرية ملهمة في أيّ عمل أدبي، فهي لغة رحبة، تخرج من جُب القصيدة، فتأتي بأناقة المعنى لمستمعيها، بينما القصص الغنائية تلتقط المعاني الحركية النابضة بشكل منطوق وفاتن، ليعد استثماراً غنياً وذكياً في ترويض السرد، والذي من شأنه أن يحبس الأنفاس، بعد نسجه إلى قطعة فنية مذهلة على المسرح الموسيقي، وحيث تبرز الإيماءات الجسدية والتعبيرية بشكل مرئي، ضمن سياق السرد بوقائعه وأحداثه الفنية الأدبية.
ولأن الكتابة حرفة، فإن أجمل الأمثلة للسرد الطويل في تشكيله غناءً، هي رواية البؤساء لفيكتور هوغو، والتي تحولت إلى مسرحية موسيقية غنائية بالكامل، ولعدة مرات خلال القرن العشرين، من خلال مخرجين كبار، قدم كل منهم الرواية غناءً، بشكل مختلف عن الآخر، فكان لرواية البؤساء الحظ الأوفر لتقديمها، لما في السرد من مشاعر فياضة، تعبّر عن كل إنسان في ثقافات الشعوب المختلفة، وفي كل عصر، حيث تتطور الشخصيات في بنيتها الدرامية بشكل سلس ومؤثر، وبالتالي، كانت إمكانية تحويل هذا السرد العظيم إلى الغناء أساليب تقنية منوعة وملهمة لعدة أجيال.
هذا بالإضافة إلى رواية الجبل السحري للألماني توماس مان، وهي من الكلاسيكيات الأوروبية المعروفة، تم تحويلها إلى مسرح وأوبرا، وأعمال مسرحية غنائية، ليبقى السرد من الفنون الأدبية الملحمية، ولها إمكانات واسعة بأن تتشعب إلى فنون أخرى، أهمها إلى مسرحٍ غنائي.
