المراوحة بين بساطة الفكرة التي تحتاج إلى عمق في التأويل وبين الغموض الذي لا يمنح المشاهد سوى رموز وإشارات، كانت هي السمة السائدة في أفلام «ليالي سينيوليو» السينمائية التي عرضت مؤخراً في مسرح مكتبة محمد بن راشد بدبي.
وبدت مشاهد الأفلام القصيرة، التي طافت وسط ثقافات بلدان متنوعة (مصر، إسبانيا، بولندا، كوريا الجنوبية)، متكئة بصورة واضحة على مدى تمكّن المتلقي من استنباط المعنى المختبئ بين التفاصيل الدقيقة، والإمساك بأطرافها التي يسهل تفلّتها.
وبينما اعتمدت بعض الأعمال، التي قدَّم لها المخرج الإماراتي نواف الجناحي بكلمة ترحيبية افتتح بها الحفل، على الحوار الطويل بين أبطال القصة، كما هو ظاهر في الفيلم الإسباني «زميل صف» الذي أُنتج عام 2016 وأخرجه خافيير ماركو، استعمل بعضها الآخر المشاهد المغرقة في الصمت وسيلةً إبداعيةً، مثلما فعل المخرج المصري حسام وليد في فيلمه الوثائقي «القناص» المنتَج عام 2022.
وحاولت مجريات الأحداث السينمائية جميعاً أن تقول شيئاً ما وتصوغ مضامين فكرية تهمس بها في أذن المشاهد، وبدا استخلاص ذلك يسيراً في الفيلم الكوري الجنوبي «دوامة» من إخراج جاي وو جانغ؛ إذ غاص في عمق النفس البشرية وسط دوامة من الأسئلة والرموز البصرية، موظفاً بعض الأجواء الغامضة التي يتخللها الرعب والمفاجآت.
وتصاعدت وتيرة الخوف المحاط بالغرابة التي تدفع المشاهد إلى الشك في حقيقة ما يراه، لكنه يظل متعاطفاً مع البطل الذي يكافح ذكرياته القديمة، وتتكرر سيناريوهات الألم الذي يواجهه والمأساة المحدقة به، حتى يلتقي فتاة تشاركه الأحزان ذاتها.
وتسعى تلك الفتاة إلى تقديم النصح للشاب بأن يعيد النظر في حياته من زاوية أبعد، ليكتشف الحجم الحقيقي لمعاناته، حينها يهدأ إيقاع الفيلم المتسارع، ويصل إلى حالة استقرار، ولعله نجح بالنهاية في أن يرسِّخ فكرة يوجهها إلى كل موجوع، مفادها أنه ليس وحيداً في أحاسيسه المريرة.
أما عوالم فيلم «القناص» فكانت نسخة طبق الأصل من عنوانه، فاكتفى صنَّاع العمل بتسليط عدسة الكاميرا على أحد الأحياء المصرية حتى تقتنص زوايا من يوميات البشر، وتركوا المجال لمظاهر الحياة العفوية أن تتحدث عن نفسها.
وأفسح مخرج الفيلم المجال واسعاً أمام كل الشخصيات من باعة وعابري طريق ورجال ونساء وأطفال لكي يرسموا لوحات بديعة ملؤها الصدق، ويستطيع كل من عايش جانباً من تلك التفاصيل البسيطة في المجتمع المصري أن يرى ملامح تعيده إلى ذكريات قديمة، يستنشق من خلالها روائح مميزة، ويسمع عبرها أصداء لا تكفُّ عن الرنين.
وداخل حيز مكاني محدود، يدور الحديث المتبادل بين بطلي فيلم «زميل صف»، وخلال ذلك يصرُّ رجل يعيش بلا مأوى على إقناع سيدة تعمل مهندسة بأنهما كانا زميلين في الدراسة، وعلى الرغم من عدم استطاعة المرأة استرجاع أي من الذكريات القديمة بينهما وتصريحها له بذلك، فإنها تمضي معه في حديثه المتسم بالهدوء والثقة المفرطة.
وربما كانت تلك الثقة هي المحور الأساسي الذي قصد مخرج العمل إبرازه، ليس لأنها استغرقت مدة المشهد الطويل وأجبرت المتلقي على التركيز والسير حيثما تتجه الأحداث فقط، بل لأنها أثبتت أيضاً أن ثمة من يملك مقدرة عالية على تصوير الخيال بهيئة الحقيقة، وصناعة ذكريات زائفة لمن يخاطبه، وهو ما يتكشف فعلياً في نهاية الفيلم عندما تغادر السيدة الحافلة وقد تعاطفت مع الرجل، ومنحته بعض النقود تضامناً مع ظروفه التي حكاها، فيمضي هو إلى سيدة أخرى يكرر معها الحوار ذاته بتلك الثقة المعهودة.