على مدى أكثر من ربع قرن، تشهدت مدينة الصويرة المغربية في شهر يونيو حدثاً فنياً استثنائياً، وهو مهرجان «كناوة»، وموسيقى العالم، الذي ظهرت نسخته الأولى في عام 1998، وبات اليوم بمثابة منصة عالمية، تجمع بين التراث الموسيقي الأفريقي العريق، والأنماط الموسيقية المعاصرة.
تعود أصول موسيقى «كناوة» إلى قرون مضت، وتُعتبر من أقدم أشكال الموسيقى الأفريقية التي نشأت في منطقة سوس بالمغرب، وتُعرف أيضاً باسم «الطرب الكناوي». كانت موسيقى ذات إيقاعات قوية وطقوس روحية، تُعبر عن روح المقاومة والهوية، وتُستخدم في الاحتفالات الدينية وطقوس الشفاء والأعياد. يُعتقد أن أصولها تعود إلى التداخل الثقافي بين الأفارقة والأمازيغ والعرب، ما أضفى عليها طابعاً فريداً من التنوع والثراء.
تمارس طقوس الموسيقى الكناوية ليلاً. لهذا تسمى «الليلة»، وتمارس سواء في بيت خاص أو في الزاوية، ويجب أن تقام ليلاً. ويكون الهدف من، طقوس كناوة الليلية، التفريج عن النفوس، وطرد الأرواح التي تهيمن عليها. وبذلك، فهم يمارسون طقوساً أفريقية قديمة، تجعل من الموسيقي أو العازف وسيطاً بين العالم الواقعي وعالم الأرواح.
بفضل حالة اللاشعور الباطني، تصبح الليلة، على حد سواء، طقوساً للخلاص وأداة علاجية. وتتكون الفرقة الموسيقية من «المعلم» الكناوي والموسيقيين الراقصين، والمقدمة، وهي حارسة الزاوية المقدسة. فمنذ عقود، تم إدراج العديد من الأساليب الموسيقية والإيقاعات الكناوية، سواء في المغرب أو في الجزائر وتونس وليبيا، أو على الصعيد العالمي. ويتمظهر هذا التأثير في أنواع عديدة من الموسيقى، مثل الراب المغربي، والموسيقى الأمازيغية العربية، وتجلى ذلك بوضوح في تجربة مجموعة «ناس الغيوان» الفريدة والثرية. كما تجلت في تجارب عالمية، توظف الموسيقى كناوة والجاز، أو كناوة والريغي، وكناوة والبلوز. ونذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تجربة كارلوس سانتانا، وبيتر غابرييل، وليد زيبلين، وروبرت بلانت، وراندي ويستون، والبينك فلويد، وكات ستيفنز، وجيمي هندريكس، وهنري سلفادور، وسافو، وريتا ميتسوكو والقائمة طويلة.
ورغم انتشار موسيقى «كناوة» عبر أرجاء العالم، وعزفها من طرف فرق في أوروبا وأمريكا واليابان، إلا أنها لم تسجل موسيقياً إلا في عام 1975، مع إصدار أول تسجيل صوتي لموسيقى كناوة على شريط كاسيت. تطورت موسيقى كناوة، وأصبحت عنواناً للفخر الوطني، حيث لعبت دوراً كبيراً في مقاومة الاستعمار، والحفاظ على التراث. كانت أدواتها الأساسية تتضمن الطبول الكبيرة، والدف، والأدوات الإيقاعية التقليدية، وأصوات المغنين التي تردد الأمداح والأغاني الروحية، في أداء يثير التأمل، ويعبّر عن عمق الروحانية الأفريقية.
تميزت موسيقى «كناوة» بإيقاعاتها المعقدة، التي تتداخل فيها أنماط إيقاعية متعددة، وتكرار الألحان بطريقة تبعث على التأمل، ما أطلق عليه اسم «الطقوس الكناوية». كانت تلك الإيقاعات وسيلة للتواصل مع العالم الروحي، وتوليد حالة من الانسجام الداخلي، وهو ما جعلها جزءاً لا يتجزأ من الطقوس الدينية والاحتفالات الجماعية، حيث يرقص المشاركون، ويؤدون أداءً جماعياً، ينقلهم إلى حالات من الارتقاء الروحي.
على مدى السنوات، استقطب مهرجان «كناوة» أسماء وفرقاً لامعة من جميع أنحاء العالم. من بين الأسماء التي لعبت دوراً محورياً في إحياء هذا التراث وتطويره، يأتي الشيخ أحمد التيزني، الذي يُعتبر أحد رواد الموسيقى الكناوية، وعبد الله الداودي، الذي ساهم في تحديث وترويج الفن على المستويين المحلي والدولي. كما برزت فرق مثل «الطرب الكناوي» و«فرقة كناوة وملاحف»، التي أبدعت عروضاً تجمع بين الأصالة والتجديد، وحققت نجاحاً كبيراً.
أما على الصعيد العالمي، فقد شارك في المهرجان فنانون مرموقون، مثل بات ميثيني، أحد رموز موسيقى الجاز الأفريقي، وماركوس ميلر، الذي أدخل عناصر من الموسيقى الأفريقية إلى موسيقى الجاز والفانك، وماسييو باركر، الذي أضاء المشهد الموسيقي بأداءات مميزة، وأسهم في تعزيز حضور كناوة على الساحة العالمية. كما شهدت الدورات مشاركة فرق وفنانين من أوروبا، أمريكا، وأفريقيا، حيث أُقيمت شراكات فنية، أضافت لمسة جديدة على التراث، وأدت إلى تطوير موسيقى كناوة بشكل مستمر.
حتى عام 2025، سجل المهرجان مشاركة أكثر من 1500 فنان وفرق من مختلف القارات، واستقطب ملايين الزوار من جميع أنحاء العالم. كانت كل دورة فرصة لاستعراض تنوع الموسيقى الكناوية، وإظهار تطورها، وتأكيد مكانتها كتراث حي ومتجدد. شهدت تلك السنوات العديد من العروض الحية، والورشات التدريبية، والفعاليات الثقافية، التي عززت التبادل الفني والثقافي، ومنصة فريدة تعبّر عن عمق التاريخ، وتواصل الروحانية، وتؤكد على قوة الموسيقى في توحيد الشعوب، وتوجيه رسالة ترابط وتسامح عبر الأجيال، ليبقى رمزاً حياً للهوية الثقافية، ومصدر إلهام لكل محبي التراث والموسيقى حول العالم.






