يشكل الاقتصاد الإبداعي اليوم أحد أعمدة التنمية المستدامة ومحركاً رئيسياً للازدهار الحضاري والثقافي، إذ لم يعد الفن مجرد فعل جمالي أو إبداع فردي، بل أصبح جزءاً من منظومة اقتصادية متكاملة توازي في أهميتها القطاعات التقليدية.
وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم تقلبات اقتصادية متسارعة وارتفاعاً في تكاليف المعيشة، تطرح الساحة الإماراتية تساؤلات محورية حول انعكاس هذه التحديات على الفنانين، وسوق المقتنيات، ودور المؤسسات الثقافية في توفير منصات دعم.
وتسلط «البيان» الضوء على تأثير الاقتصاد على الفنون، مستعرضة آراء نخبة من الفنانين، القيمين، وأصحاب الغاليريات والمقتنين، للكشف عن ملامح المرحلة المقبلة في مسيرة الفن الإماراتي، وكيف يمكن للإبداع أن يواصل مساره كقيمة ثقافية واقتصادية في آن واحد.
وحول ما إذا كان حال الاقتصاد العالمي قد أثر على اقتناء الأعمال الفنية، قال عبدالله بن عيسى السركال، مقتني للأعمال الفنية: «المبدأ العام عند المقتني هو أن الفرصة لا تضيع.
فغالبية المقتنين من الطبقة المعيشية المرتفعة لا تعنيهم تكاليف المعيشة عندما يتعلق الأمر بالمقتنيات الفنية أو التاريخية، لأنها تمثل لكل واحد منهم ذكرى أو إحساساً فنياً خاصاً، وفي النهاية هي أذواق تدفعهم للانجراف، بل والاندفاع إلى الاقتناء بقرارات جريئة».
وأضاف: «كثير منا يخصص جزءاً من مدخراته السنوية للاقتناء الفني، فالقطعة الفنية الواحدة قد تكون محركاً لمداخيل وإيرادات بشكل غير مباشر، خصوصاً إذا عرضت للزوار وتم ربطها باسم تجاري لمؤسسة مثل السركال أفنيو.
فمقتنياتنا تصبح عامل جذب للجمهور، وتترك أثراً من الإعجاب لدى الناس، وهو ما يشكل حافزاً نفسياً للمقتني ليستمر في الاختيار والاقتناء مستقبلاً».
وأوضح: «شخصياً، أرى أن الاقتناء الفني لا يتأثر بالتضخم وحال الاقتصاد العالمي، لأن المقتني الحقيقي هو قنّاص فرص ومجازف، وغالباً ما ينتمي إلى الطبقة الثرية. أما محدودو الدخل فينظمون جدول الشراء بناء على خبراتهم السابقة في المعارض والسفر، فيكونون أكثر استعداداً بخطط واضحة وحجم مبالغ محددة لهذا الغرض».
فرص جديدة
وفي ما يخص تأثير ارتفاع الأسعار العالمية على إنتاج الأعمال الفنية محلياً، وما إذا كانت هذه التحديات قد تدفع الفنانين للبحث عن بدائل إبداعية في المواد وأساليب العرض، أوضح القيم الفني ناصر عبدالله: «إن التغيرات الاقتصادية العالمية ليست استثناء، بل هي سمة متكررة في مسيرة التاريخ.
ومن رحمها نشأت حركات فنية واجتماعية كبرى شكّلت محطات فارقة في تاريخ الفن. واليوم، ومع تسارع هذه التحولات على نحو غير مسبوق، تبرز أمام الفن المعاصر فرص جديدة لرسم مسارات مبتكرة، ويكون للفنانين دور محوري في توثيق هذه اللحظات والتحولات عبر أعمالهم».
وأضاف أن الفن في جوهره فعل تفاعلي مع الواقع، وهو ما يمنح الفنان القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، فتنعكس على أفكاره ورؤاه الفلسفية التي يسعى لإيصالها من جهة، وعلى ابتكار تقنيات وخامات وأساليب عرض جديدة تعكس أثر هذه التحولات العالمية من جهة أخرى
. وأشار إلى أن الاقتصاد الإبداعي أصبح جزءاً أساسياً من المنظومة الاقتصادية العالمية والمحلية، ما يتطلب تقديم الدعم المعرفي والمادي للفنانين كي يتمكنوا من مواجهة التحديات والانخراط الفاعل في هذا الحراك.
ولفت ناصر عبدالله إلى مكانة الإمارات التي تقدم برامج ومنحاً نوعية لدعم الفنون، وفي مقدمتها البرنامج الوطني لمنح الثقافة والإبداع الذي تطلقه وزارة الثقافة، مؤكداً أن تطوير البرامج التدريبية للفنانين يمثل ركيزة مهمة لصقل التجارب وتوجيه المسارات الثقافية، وبما يسهم في تعزيز حضور الدولة على خارطة الإبداع العالمي.
أعمال نادرة
وأكد القيم الفني حكم عدي من «أوبرا غاليري» في دبي، أن سوق الفن لا ينفصل عن التغيرات الاقتصادية العالمية، إذ تتراجع القوة الشرائية للطبقة المتوسطة في أوقات الأزمات، بينما يواصل المستثمرون التعامل مع الأعمال النادرة كأصول تحفظ قيمتها مثل الذهب والعقارات.
وأوضح أن الفنانين الشباب يتأثرون أكثر بهذه التقلبات، على عكس الأسماء الراسخة التي تحافظ على حضورها. وأضاف أن «أوبرا غاليري» اعتمدت حلولاً مبتكرة للتكيف مع هذه التحديات، مثل التحول الرقمي عبر المعارض الافتراضية والمزادات الإلكترونية، والانفتاح على الفن الرقمي و(NFTs)، إلى جانب بناء شراكات مع قطاعات أخرى والتركيز على الأعمال المحلية والمستدامة.
وأشار كذلك إلى أن المبادرات والوجهات والمعارض الكبرى مثل «آرت دبي»، ومنطقة القوز الإبداعية ومعرض سكة الفني، عززت مكانة دبي كوجهة رئيسية للفن المعاصر، وأسهمت في دعم الفنانين وإيجاد منصات جديدة للتواصل مع جمهور عالمي.
دعم وتسويق
وفي معرض رده على سؤال كيف تؤثر الضغوط الاقتصادية العالمية على الفنان الإماراتي بشكل خاص، وعلى مستقبل الحركة التشكيلية في الدولة، أوضح الفنان عبدالرحيم سالم، رئيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، أن الفن في الإمارات يحظى باحترام وتقدير كبيرين.
وهناك العديد من الجهات المهتمة بدعم وتسويق أعمال الفنانين، سواء من خلال بعض الغاليريهات التي تبذل جهوداً لتنشيط هذا الجانب، أو عبر المتاحف التي تقتني الأعمال الفنية مباشرة من الفنانين.
ومن وجهة نظره، فإن الوضع الاقتصادي العالمي لا يشكل تأثيراً مباشراً على الحركة التشكيلية في الدولة بقدر ما يرتبط الأمر بالخط البياني لتطور هذه الحركة داخلياً، إذ إن الظروف الاجتماعية والهموم الفنية التي يعيشها الفنان هي التي تدفعه للإنتاج والإبداع أكثر من المؤثرات الاقتصادية.
ويضيف سالم أن لدى الإمارات أسماء فنية لها خبرة طويلة وتجارب ثرية في مجال الفنون التشكيلية، وقد بدأ كثير منهم يثبت حضوره بقوة على الساحة المحلية والدولية.
كما يلقى الفنانون الشباب بدورهم اهتماماً لافتاً من داخل الدولة وخارجها. ومن المهم ــ برأيه ــ أن يكون هناك اقتناع مؤسسي على مستوى الدولة بضرورة اقتناء الأعمال الفنية وحفظها في مكان مناسب للمستقبل.
وأشار إلى أن جمع واقتناء الأعمال الفنية لعدد من الفنانين ما زال ممكناً اليوم، لكن مستقبلاً قد يصبح الأمر صعباً بسبب ارتفاع أسعارها إلى مستويات قد تعجز بعض الجهات عن دفعها.
وأكد سالم أنه لا يحب ربط الفن بالاقتصاد العالمي بشكل مباشر، لأن للفن مساراً يختلف عن مسار الاقتصاد. ومع ذلك، يستشهد بتجربة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية عندما واجه الاقتصاد ركوداً كبيراً.
حيث لجأت بعض الشركات والأفراد إلى بيع الأعمال الفنية التي كانوا يقتنونها من أجل تعويض خسائرهم المالية، مضيفاً: «هنا لعب الفن دوراً إنقاذياً حقيقياً، إذ تحولت الأعمال الفنية إلى أصول تُباع بأسعار مرتفعة. فالفن بطبيعته ــ كما يرى ــ يصعد ولا يهبط، وهو ما يجعله عنصراً مستقراً في أوقات الأزمات».
أما بالنسبة للحركة التشكيلية في الإمارات، فيرى عبدالرحيم سالم أن ما يجري في العالم من أزمات اقتصادية عامة لا يوقف هذه الحركة التي تتكيف مع التحديات وتتغلب عليها، لأن استمرارية الفنانين في ممارسة فنهم هي بحد ذاتها استمرارية للحركة التشكيلية. ويؤكد أن الفنانين في الدولة لم يتوقفوا عن العطاء والإبداع، وهذا الاستمرار أقوى تأثيرًا من أي أزمة اقتصادية قد يمر بها العالم.
الاستثمار الاقتصادي
وأوضح المهندس رشاد بوخش، رئيس جمعية التراث العمراني عن كيفية تمكّن المتاحف الفنية من مواصلة برامجها ومعارضها واقتناء الأعمال الفنية في ظل ارتفاع التكاليف، بما يسهم في ترسيخ دور دبي كمنصة عالمية للاقتصاد الإبداعي، وقال:
«إن المتاحف في حال وجود تحديات اقتصادية عالمية وارتفاع تكاليف، تحرص على مواصلة رسالتها من خلال اعتماد نهج استراتيجي مبتكر يوازن بين الاستدامة المالية وتحقيق الأهداف الثقافية.
وفي هذا السياق، تعمل المتاحف على تعزيز شراكاتها مع المؤسسات الحكومية والخاصة، واستقطاب الرعاة والداعمين من داخل الدولة وخارجها، بما يتيح لها توفير مصادر تمويل متنوعة ومستقرة تدعم برامجها وأنشطتها».
وأضاف: «تولي المتاحف اهتماماً خاصاً بالاستفادة من التقنيات الرقمية الحديثة عبر تطوير منصات افتراضية ومعارض تفاعلية، تسمح بالوصول إلى جمهور أوسع على المستويين المحلي والدولي، مع تقليل التكاليف التشغيلية.
إلى جانب ذلك، تنتهج المتاحف سياسة اقتناء مدروسة للأعمال الفنية تقوم على اختيار القطع ذات القيمة الثقافية العالية والقدرة على الإسهام في الحوار الحضاري والإبداعي، مع مراعاة الجدوى الاقتصادية والاستثمار الثقافي طويل المدى».
