السرد الرمزي.. رحلة إلى ما وراء الحكاية

السرد الرمزي أحد أبرز أشكال الكتابة الإبداعية التي تتجاوز الحكاية المباشرة إلى بناء عالم موازٍ، ليشفّ عن المعاني العميقة من خلال الرموز والإشارات، فهو لا يقدم القصة كما هي، بل يزرع خلف الشخصيات والأحداث إشارات إلى قضايا كبرى، قد تكون سياسية أو دينية أو فلسفية.

بحيث يتحول النص إلى مساحة للتأويل والتفكير، لا مجرد متابعة للأحداث، أي في هذا النوع من السرد، لا يكون النص هدفه الترفيه وحده، بقدر أن يصبح مجالاً لقراءة متعددة المستويات.

فالقارئ البسيط قد يتوقف عند ظاهر الحكاية، فيما القارئ المتأمل يكتشف تحت السطح شبكة من الرموز والمعاني التي تحاكي قضايا واقعية أو وجودية.. ومن هنا تكمن قوة السرد الرمزي: أنه يوسع مساحة النص ليجعله أفقاً للحوار مع التاريخ والفكر والواقع الاجتماعي.

من أبرز الأمثلة الكلاسيكية على السرد الرمزي «حي بن يقظان» التي كُتبت قبل ثمانية قرون، وهي لأبي بكر بن طفيل، وهو ليس بروائي فقط، بل فيلسوف وطبيب أندلسي، كتب هذه الرواية المستعارة من الصوفية، وبسرد فلسفي ديني ورومانسي وأدبي، وأيضاً علمي، حيث يقول البعض إنها استعارة سينوية، أي المذهب الذي ينسب إلى الفيلسوف والطبيب ابن سينا.

تحكي قصة إنسان (طفل) نشأ وحيداً في جزيرة، ويكبر مع الغزالة التي ترضعه، ويبدأ بالسؤال والبحث.. وبالتالي الرواية ترمز إلى رحلة العقل البشري في بحثه عن الحقيقة والتوحيد، وتغدو في ذات الوقت نصاً فلسفياً عن المعرفة والوجود، ليبقى الاسم حيّ وهو الإنسان، واليقظان وهو المفكر أو العقل.

هناك روايات أخرى كثيرة تستند أيضاً في سردها إلى الرمزية، مثل «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، وهي رمزية الثورات وانحرافاتها، كما في الأدب العربي الحديث، يكتب نجيب محفوظ برمزية في «أولاد حارتنا»، حيث تصبح الحارة رمزاً للعالم الإنساني، وشخصياتها إشارات للأنبياء ومسيرة البشرية.

وكذلك رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، ورموز التحول من التقليدية إلى الحداثة، ورواية «طروس إلى مولاي السلطان» لسارة الجروان، في حقيقتها لغة رمزية عالية عن التحولات بين الماضي والحاضر.

أما في الأدب الروسي فنجد عند دوستويفسكي حضوراً قوياً للرموز الدينية والفلسفية، حيث تتحول شخصياته في مجمل رواياته إلى نماذج للصراع بين الإيمان والشك، وبين الحرية والقدر.

بناء المعنى

وأخيراً، تكمن أهمية السرد الرمزي في أنه يتيح للكاتب أن يقول ما قد لا يقال مباشرة، خصوصاً في البيئات التي تعاني الرقابة أو الصراع، كما يمنح القارئ فرصة المشاركة في بناء المعنى، عبر قراءة الرموز وتأويلها وفق ثقافته وخبرته.

وهو بهذا يعكس عمق العلاقة بين الأدب والفكر، إذ يثبت أن النص ليس مجرد قصة تُروى، بل فضاء للبحث والتأمل والمساءلة، ليعلمنا السرد الرمزي أن وراء الحكايات دوماً ما هو أبعد من الحكاية، وأن الأدب الحقيقي ليس مرآة سطحية للواقع، بل أداة لاختراق طبقاته وكشف جوهره، فالسرد الرمزي دعوة إلى القراءة الثانية، وإلى البحث عما وراء الكلمات، حيث تنبض الحياة الفكرية والفنية بأقصى قوتها.