في فضاء يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والزمن، يحتضن «جاليري آيرس» في أبوظبي، معرض «تراكمات صامتة»، للفنان الإماراتي عمار العطار، الذي يقدّم من خلاله أعمالاً فنية متنوعة، وتجربة تأملية مستلهمة من فكرة التكرار والروتين اليومي، كمرآة لحالة الإنسان المعاصر.
المعرض، الذي يستمر حتى 26 نوفمبر المقبل، يأخذ الزوار في رحلة بصرية وفكرية تجمع بين فن الأداء، والمكان، والذاكرة، والطبيعة، والبيئة العمرانية المنسية.
ويؤكد القيم الفني للمعرض ناصر عبد الله، أن اختيار العطار لتقديم تجربته في هذا المعرض لم يأتِ صدفة، بل جاء تتويجاً لحوار فني ممتد منذ عام 2017، تخللته نقاشات حول تحولات تجربته ومساراتها. ويشير إلى أن المعرض ليس مجرد عرض فني، بل وثيقة بصرية تتقاطع فيها الذاكرة الفردية مع الجماعية، وتعيد قراءة علاقة الإنسان بالزمن والبيئة.
ويضيف: «يُعدّ عمار العطار واحداً من أبرز الفنانين الشباب الإماراتيين، وأكثرهم حيوية في المشهد الفني المعاصر. فقد انطلقت تجربته من التصوير الفوتوغرافي، قبل أن تتسع لتشمل مشاريع إبداعية متنوّعة، أسهمت في إعادة قراءة مكوّنات الذاكرة البصرية الإماراتية. ومن أبرز إسهاماته، عمله على توثيق الاستوديوهات التقليدية ودور السينما القديمة، وهي مشاريع لا تقتصر أهميتها على بعدها الجمالي، بل تمتد لتؤسس لسجل بصري وثقافي، يربط بين الماضي والحاضر. هذا التراكم الفني والمعرفي، جعل من تجربته مساراً غنياً، يستحق التقدير والاهتمام.
من جانب آخر، يرتكز هذا المعرض على حوار فني ممتد بدأ منذ عام 2017، تخللته نقاشات معمّقة حول مسارات العطار الفنية وتحولاتها. ومن خلال هذا الحوار المستمر، جرى طرح أسئلة فتحت آفاقاً جديدة للتجريب، وأتاحت للعطار أن يوسّع تجربته، بما يواكب تطور الفن الإماراتي المعاصر، ليصبح المعرض ثمرة طبيعية لمسار طويل من التفاعل والتفكير المشترك».
طبيعة الزمن
ويردف: «المعرض يعكس طبيعة الزمن الحديث الذي نعيشه اليوم، حيث تسبق الأسئلة دائماً الإجابات. فهو في جوهره مساحة لمساءلة الذات، قبل أن يكون موجّهاً للجمهور، إذ يتيح للزائر أن يطرح على نفسه أسئلة حول إيقاع حياته اليومية، ويمنحه فرصة لإعادة النظر في أنماط التكرار والرتابة التي تطبع تفاصيل يومه، في محاولة للبحث عن منظومات أكثر توازناً واستقراراً. من خلال هذا الطرح، يخاطب عمار العطار المجتمع مباشرة، فيضع الفرد أمام مفارقة واضحة: بين رتابة الحياة اليومية، التي قد تصل حدّ الملل، وبين عصر يتسارع في كل جوانبه، من التكنولوجيا إلى الاقتصاد والسياسة، وغيرها من دوامات التغيير المستمر. هذه المفارقة تُحفّز على التفكير مجدداً في موقع الإنسان ودوره ضمن هذا الزمن المتسارع».
ويسترسل: «تنعكس هذه الرؤية في الأعمال المعروضة، التي اتخذت من الدائرة وتكرار النقاط بنية أساسية، إلى جانب الأعمال الأدائية التي تستند إلى فكرة التكرار المتواصل. هذا التكرار ليس مجرد شكل جمالي، بل سؤال مفتوح حول ماهية الحياة ذاتها».
ويؤكد أن المعرض لا يبحث عن إجابات جاهزة، بقدر ما يدعو إلى التأمل، وإيجاد إجابات فردية، تنسجم مع وعي كل شخص وظروفه الخاصة، لافتاً إلى أنّ المعرض يستحضر حضور الطبيعة في مواجهة صخب المدينة وضغط الحياة اليومية.
تجارب شخصية
من جانبه، يتحدث الفنان عمار العطار عن تجاربه الشخصية وأعماله في معرض «تراكمات صامته»، وكيف أثّرت فكرة التكرار والروتين اليومي في أعمال المعرض، ويقول: تؤثر دائماً التجارب الشخصية والظروف التي يواجهها الفنان في إنتاجه للأعمال الفنية. والأعمال في معرض «تراكمات صامتة»، هي نتاج عمل مستمر لمواضيع مختلفة، لكنها تتصل بالحالة الإنسانية التي نعيشها في الواقع، من مواجهة للظروف والمشاكل المتكررة في حياة الإنسان من ناحية وظيفية روتينية أو حياتية. والتكرار في منظوري هو مفهوم عملي لبعض الأشكال في الصور مثل الدوائر، بالرغم من عدم تشابهها، لكنها صورة للواقع المكرر، الذي يختلف من مرّة لأخرى، لكنه متشابه في المنظور العام، ومكرر بالنسبة لي.
وعن اعتماد الفنان في تجربته على المزارع المهجورة، والمكعبات الخرسانية والمخلفات، والعلاقة بين هذه العناصر المهملة وبين الذاكرة، يقول عمار العطار: «أرى في هذه الأماكن روح الأشخاص الذين تعايشوا معها، لكن مع مرور الوقت، أثرت الظروف البيئية في شكل المكان، كما تؤثر الظروف المختلفة في هيئة وشكل الإنسان بتجاربه المختلفة. وذاكرتنا أيضاً تختلف وتتطور مع مرور الزمن، وزيادة وعينا ونضجنا في الحياة. لذلك أرى أن هذه الأماكن تستحق أن نعطيها فرصة أخرى للتفاعل معها، ومع بقايا المكان. هي أماكن كانت يوماً ما ذات فائدة لأشخاص معيّنين، تراكمت مع مرور الزمن، لتكون بقايا عمران، وجدت فيها فرصة لابتكار أعمال أعبّر فيها عن صراعات وتجارب داخلية يواجهها الإنسان بشكل عام، وفي أي مكان، رغم أنها تخصني كفنان أعبر بها عن حالتي الشخصية».
تساؤلات وظروف
ويضيف: «ذلك يثير تساؤلات المتلقي، لينمي وعيه حول الظروف التي نمر بها بشكل يومي. من ناحية أخرى، أحب الذهاب لهذه الأماكن، كنوع من الخلوة الذهنية، والابتعاد عن صخب الحياة، وتمرين الذهن والعقل لإعطائي حرية في إنتاج أعمال بعيدة عن أنظار وحكم المشاهدين، أو البشر الذين يقومون دائماً بالتدخل في كينونة الشخص، وتأطيره بشكل معيّن. وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر هذه الأماكن بالنسبة لي ساحات تجارب غير مقيدة، أجد فيها مطلق الحرية لعمل تجارب جديدة، بدون تدخل بشري».
وعن حضور فن الأداء (الرقص، الصراع مع الأجسام الثقيلة) في أعماله، يقول عمار العطار: «حركة الجسم هي محور مهم في أعمال فن الأداء، وهي تعبير حركي لأفكار وتجارب الفنان في مواجهة الواقع، أو استحضار لحظات غير واقعية. وإن فن الأداء غير مرتبط بسيناريو أو حوار يتدرب عليه الفنان، كما في المسرح التمثيلي، ولكنه يتغير وفق ظروف المكان الطبيعية، فينتج عنه صراع أو عمل، يبحث فيه فنان الأداء عن حلول ينهي بها العمل الفني».








