في ظل اهتمام الدولة بالتراث والموروث الشعبي، باعتباره جزءاً مهماً من مكونات الهوية الوطنية، يبرز سؤال حول عزوف الدراما عن استثمار المخزون الثري من التراث الشعبي، الحافل بالقصص والحكايات، والمرويات، والأشعار، وغيرها.
ومن هنا، توجهت «البيان» إلى المهتمين والباحثين في مجال التراث، لاستطلاع رأيهم حول هذه القضية، التي تختزل الكثير من الملفات والإشكاليات المتعلقة بالعلاقة بين التراث والفنون المعاصرة.
أكدت الدكتورة الباحثة موزة غباش رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي، أنه من المهم جداً الالتفات إلى التراث والتاريخ الحي للدولة، الذي شهد على وقائع عديدة وتحديات، ونجاحات، وصعوبات، كلها يجب أن يتم الاحتفاظ بها، سواء عبر تدوينها لتبقى حية، لا شفاهية فقط، ما يعرضها للنسيان والاندثار.
وأضافت: «من المهم توثيق التراث، سواء من خلال الدراما، وتحويل قصصه الجميلة والعميقة ذات المعاني والمفاهيم العديدة، كالأصالة وتعليم العادات والتقاليد وحب الجار ومحبة الآخرين ومساعدتهم في أصعب ظروف الحياة، قياساً على ما عاشه الأجداد من حياة قاسية، بالكاد كان يتوفر فيها المكونات الأساسية للحياة.
ويتعلمون أيضاً كيف تغيرت حياة الناس، مع دخول النفط، وكيف حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم، كل ذلك وغيره من التفاصيل، يجب أن يدوّن، وأن يترجم لدراما عصرية، تبقى للجيل الحالي والقادم، توثق وتعلم وتعرّف».
وقالت غباش: «للأسف، لا توجد شركات إنتاج تتبنى هذا النهج، الجميع يتوقع أن التلفزيونات المحلية ستدفع للاستثمار في هذا المجال، وهذه أيضاً نقطة في غاية الأهمية، يجب النظر فيها والاعتناء بها».
من جهته، يعزو جمعة بن ثالث المختص بالتراث البحري، عزوف الدراما التلفزيونية عن تناول قصص التراث، إلى تقصير من العاملين في هذا المجال، فيقول: «هذا يرجع إلى شخصين: الكاتب والمنتج، حيث نحتاج إلى كاتب مهتم، ينتج نصاً جيداً. وكذلك نحتاج إلى منتج يدرك أهمية مثل هذه القصص، لأن الإنتاج التلفزيوني بطبيعته يحتاج إلى تمويل».
ويرى جمعة بن ثالث، أن ظاهرة العزوف عن تناول القصص التراثية، ظاهرة شائعة في العالم العربي، ولا تقتصر على بلد دون آخر، ويحذّر قائلاً: «نحن كعرب مقلّون في هذا المجال، وعليه، فإن تراثنا في طريقه إلى النسيان، وكان من شأن تحويل مثل هذه قصص التراث إلى دراما، أن يحفظ تراثنا ويحييه».
ويضيف: «توجهات الشاشة العربية هذه الأيام، تذهب باتجاهات مكررة ونمطية، فدائماً القصص تتمحور حول شركة يتخاصم عليها الأبناء، الذين يكون أحدهم مدمناً، ومن ثم يتم الصراع بين الإخوة على الورث، ونرى حكايات مكررة، وهذه النمطية تثير سؤالاً محيراً: ما الذي يضطر صناع الدراما إلى هذا التكرار وهذه النمطية؟، علماً أن جلسة واحدة مع واحد من كبار السن، يمكن أن تمنحنا عشر قصص، وعشر قصص تعني عشر حلقات غنية ومتنوعة».
كما أشار إلى تجربته السابقة في الإشراف على أحد المسلسلات، التي تم أخذ قصتها من التراث، ومدى النجاح الذي رافق إنتاجه، وإقبال الجمهور على مشاهدة حلقاته، وارتباطهم به، ما يؤكد أن الجمهور متعطش لهذا النوع من القصص والدراما، ويتعين أن يتم الاهتمام به من كافة الجهات المعنية.
من جهته، يرى فهد المعمري الباحث في التراث، أن قضية الحفاظ على التراث، تشهد تحديات كثيرة، فهو لا يزال معتمداً على الروايات، ولا يزال شفهياً، ولم يتم تدوين أغلبه بعد، وفي هذا معضلة أساسية، لجهة الخوف والخشية عليه من الاندثار.
ويؤكد أن الإرث التراثي غني بالقصص والحكايات، ولكن عدم تدوينها، قاد إلى جهل الغالبية العظمى من الناس بها، وهذا يقلل من تأثيرها، ويهدد بقاءها، ويمكن أن يكون عاملاً لنسيانها.
ويشير المعمري إلى أن من المعضلات التي لا يتحدث عنها أحد، هي تلك المتعلقة بالملكية الفكرية للقصص، وكذلك بالبعد الاجتماعي المتعلق بالسمعة، وقال:
«فإن نشرت أنا رواية سمعتها من صاحبها مباشرة، فإنني سأواجه على الأقل موقفاً يظهر فيه أبناء هذا الشخص وأحفاده ممن يحتجون على هذا التفصيل أو ذاك، أو من الأصل يرفضون فكرة أن يذكر أسلافهم في رواية ما، أو يضعونني أمام السؤال: من الذي أعطاك الحق في أن تذكر أبي، أو عمي، أو جدي، وتروي عنه القصص. وهذا بالطبع بغض النظر عن أن القصة جميلة أو لا».
ويتحدث المعمري عن إشكالية أخرى، تتعلق بما فرضه الابتعاد عن زمن قصص التراث، حيث إن بعض القصص لا يعرفها سوى أشخاص معدودين، سمعوها عن آخرين، وهذا يثير إشكالية تتعلق بالمصداقية وقوة التوثيق، ويقول:
«لو كانت هذه القصص مدونة وموثقة بكتب، لكانت متاحة، ولكان بالإمكان اللجوء إليها، واستلهام أعمال فنية منها، أما في ظل عدم التدوين، فالأمر بالغ الصعوبة، ومن الأجدى أن يتم البدء بالتدوين، لأجل الحفاظ على التراث أولاً، وبقائه حياً لأطول فترة ممكنة، ومن ثم تحويله إلى دراما، من شأنها أن تسهم في نشره وتوثيقه أيضاً».
من جهته، أكد الفنان مرعي الحليان، أن التراث الإماراتي غني جداً بالقصص التراثية المنوعة، والتي تستحق بالفعل أن تنقل إلى الشاشات، وتكون جزءاً هاماً من الدراما المحلية، وأضاف: «هنا المسؤولية تقع على الجميع، من مدونين للتراث والمحافظين عليه، والمنتجين، كلهم لهم دور هام في صناعة دراما تراثية غنية ومنوعة أيضاً».
وقال: «نحن أبناء الصحراء، وهي مكون أساسي في حياتنا، لكننا لم نرَ أن الصحراء وثقافتها تمت ترجمتها بعاداتها وتقاليدها وقصصها إلى دراما تلفزيونية، وأغلب ما تم إنتاجه عن التراث، كان يتعلق بالبحر فقط، علماً أن تجربة الأردن في هذا المجال تجربة جيدة، حيث تم توثيق قصص وحكايات التراث المتعلقة بالصحراء لديهم بشكل واضح، على مدى سنوات طويلة».