مرايا الذات ومديات البوح والتأمل.. خزائن الذكرى وقصص الحياة بتلوناتها وأبعادها وأطوارها. تلك هي العوالم الشاعرية التي ينبض بها ديوان «بين الكلمات والنجوم»، للشاعرة الإماراتية ميرة بن ثاني المهيري، والذي يمثل سياقات انعكاس أدبية لذات تختصر ذواتاً مجتمعية عديدة..
بجانب كونها تضيء فرادنية الشاعرة نفسها، والتي نختبر ونتماهى في طيات وأسفار قصائدها، المكتوبة باللغة الإنجليزية (سيترجم قريباً إلى اللغة العربية)، ومع حروف ومعانٍ تتجلى أصوات مضمخة بأناقة الصور التعبيرية بينما ترصد ملامح التغيرات وفصول ومحطات الحياة التي اختبرتها ومرت بها ميرة.
ففي كل قصيدة هناك ضفاف عامرة بأصداف ولآلئ الحروف التي تثوي فيها حكايات ذاتية ومجتمعية عامة.. إنها كلمات عامرة بالجرأة البناءة الإيجابية التي تتخير فيها المعاني أناقة ملونة بالوجدانيات العميقة الوضاحة المتقمصة أثواب شاعرية أخاذة.
«الأرض»
يضم الكتاب خمسة فصول، يتبدى كل منها عالماً فريداً متوهجاً بسير وومضات محطات ومراحل مختلفة من المشاعر والتجارب الإنسانية، ومن بين ذاك، الفصل الموسوم بـ«الأرض» والذي نتبين فيه سياقات ارتباط أخاذ بديع ووثيق، بين شاعرتنا والطبيعة.
إن كل قصيدة في هذا الفصل إلهامها من الأرض، من صلابة الجبال، وسكون الغابات، وهمس الرياح، حيث تولد الكلمات تماماً كما تنبت الحياة من عمق التربة.
ويجد القارئ نفسه محاطاً بعناصرها الهادئة والصلبة، ويشعر بالطمأنينة في الجذور الراسخة، كما لو أن الأرض نفسها تعيده إلى ذاته الحقيقية. ونشعر كما أن الصوت الجوهري العميق ههنا فحواه ثيمة أساسية، وهي:
نحن جزء من هذا العالم، وكما تمتد جذور الأشجار في عمق التربة، تمتد جذورنا نحن أيضاً في هوية تشكّلت عبر الأماكن التي احتضنتنا. وتؤكد لنا مدارات صور وسكبات صوغ ميرة في الصدد، أن هناك شيئاً في الطبيعة يعيدنا إلى أصلنا، إلى اللحظات التي شعرنا فيها بأننا أقرب إلى أنفسنا.
أما في محطة فصل الكتاب الثاني، الموسوم بـ«من السماء»، فلا فضاءات أو حدود تؤطر ألحان الارتحالات الشائقة للقصيدة في مديات الخيال المسكون بعشق الجمال والقيم المطلقة.
ففي هذي الرحاب ينفصل القارئ عن حدود الواقع ويحلق في فضاء ممتلئ بالسحر والعجائب، حيث تمتزج الأحلام بالنجوم، ويتلاشى الشعور بالزمن في عالم من الخيال اللامحدود.
وهنا، حيث تتنامى وتزدهي الأحلام، يصبح كل شيء ممكناً. بين السحب المتناثرة والضوء الخافت للقمر، نجد تلك المساحة التي تفسح المجال لأحلام اليقظة، للأفكار التي لا يقيّدها المنطق، وللرغبات التي تبدو بعيدة ولكنها تتلألأ كنجمة في سماء صافية. هذا هو عالم الخيال الذي يعيشه كل إنسان بينه وبين نفسه سراً.
ومن ثم تحط ميرة بن ثاني المهيري، رحال القصيد في مرابع «التذكارات»، لتضمخ الحروف والمعاني بأعطار الحنين، فتروي قصصاً وتعيدنا إلى كياننا الأصل مهما حاولنا النسيان. إنها تفعل ذلك بتقانة وحرفية بينما أنها تشرع بوابات الذكرى لنستمع إلى أصداء تردد لحظات شكّلتنا.
هنا، حيث تلتقي الذاكرة بالحاضر، نعود إلى الأماكن التي تركت بصمتها في أرواحنا، وإلى الأشخاص الذين ما زالت كلماتهم تتردد في أذهاننا، وإلى الأيام التي عشناها بكل تفاصيلها، وحتى إن أصبحت بعيدة.
كأننا نجمع تذكارات من محطات حياتنا المختلفة، ليس لأنها مجرد لحظات عابرة، بل لأنها تشكّل أجزاءً منّا، خيوطاً غير مرئية تربط بين الماضي والحاضر، بين من كنّا ومن أصبحنا عليه. فبعض الذكريات تظل دافئة كأشعة شمس متسللة عبر نافذة قديمة، وبعضها حادة كهواء بارد يوقظ شيئاً داخلنا.
«الظلام» و«الانجذاب»
لا تكتفي صاحبة «بين الكلمات والنجوم» بتلك الأسفار البيانية العميقة النابضة وجداً، بل تطوع وتوجه مسبار ومبضع القصيدة ليلج مساحات «الظلام» في رابع الفصول، الذي تسميه الكاتبة وتعرفه بمشاعل الكلم كونه المدى الأكثر صدقاً ووضوحاً وانقشاعاً. فتأخذ بأيدينا ورؤانا في هذه الحال لنغوص عبر الكلمات في الأعماق وتتكشف لنا المشاعر المكبوتة والتساؤلات التي نخشى مواجهتها.
ونجد أننا، ونحن نتأرجح بين تلك الاتجاهات، بين ظلال الحروف والصراعات الداخلية. فتتجلى الأجزاء التي نحجبها عن العالم، الجوانب الخفية التي نخفيها خلف الأبواب المغلقة، والهويات التي نخشى الاعتراف بها حتى لأنفسنا. إنه المكان الذي تلتقي فيه مخاوفنا بأحلامنا غير المعلنة.
حيث تتعايش نقاط ضعفنا مع قوتنا.. وحيث نكتشف أن الظلام ليس مجرد غياب النور، بل مساحة تنبض بالحقيقة، بالخيبات، بالأسئلة العالقة، وبكل ما لا نجرؤ على البوح به. كل منا يحمل ظلاً يرافقه ليس جزءاً منفصلاً عنا، بل هو امتداد لما نحن عليه. وكم يلذ ويشف ويأتلق كوكب «الانجذاب»، في مسك الختام.
مشاعر صادقة
ففي نهاية هذا الارتحال، تنسج الشاعرة أرواحاً شاعرية أخاذة لماهيات الاحتفاء الأبلغ بالأنوثة والرقة، وبالقوة التي تنبع من المشاعر الصادقة. فههنا، يمتزج الحب بالجرأة، ويأخذنا النص إلى لحظات حالمة تحمل معاني العاطفة والانجذاب، تاركة أثراً عميقاً في القلب..
وفي تلك الرحاب تتداخل المشاعر مع الخيال، ويصبح كل شيء أكثر لطفاً ودفئاً. إنه مساحة للحب والرومانسية، حيث تكمن القوة في الصدق والشفافية، وحيث نجد الجمال في أبسط اللحظات — في التوق، في اللهفة، في الأحاسيس التي تجعل الحياة أكثر عمقاً وثراءً.