يتجاوز التنافس الفني كونه مجرد صدام شخصي أو حقد عابر، ليتحول إلى "آلية حضارية دقيقة" صاغت مسار الإبداع البشري منذ فجر التاريخ.
ففي محراب الفن، لا يُقاس المجد بعزلة الفنان، بل بحدة المواجهة التي يخوضها ضد نظيره. إنها، في جوهرها، "حوار العمالقة" الذي يدفع كل طرف نحو تجاوز سقف المستحيل، محولاً الخصومة إلى وقود لا ينضب للعبقرية.
فمن "أسطورة العنب" و "الستارة الإغريقية" التي أسست لقاعدة "خدع المخادع"، إلى تبادل الضربات النارية بالفرشاة بين رواد الرومانسية، يظل الدرس واحداً، "التنافس المُتقَن ليس ضرراً جانبياً، بل هو الشريك الخفي الذي يكشف أعمق أسرار الإتقان والخلود".
لقد أثبت التاريخ أن النجاح لا يكتمل إلا بوجود منافس يرفع سقف التحدي، مُجبراً الفنان على استنفار عضلات العقل واليد.
وفي هذا السياق، نغوص في صفحات التاريخ لنستكشف المبادئ الخمسة التي حكمت أشرس الخصومات الفنية، وكيف كانت قاعدة المنافسة هي الحجر الأساس الذي بُنيت عليه أضخم الإنجازات التي تراوحت بين التنافر الشخصي والتحدي الوجودي.
قنبلة طلاء "تيرنر" و "كونستابل"
في حوالي عام 400 قبل الميلاد، دخل الرسامان الأسطوريان "زيوكسيس" و "بارهاسيوس" في مسابقة وجهاً لوجه ليقررا بشكل نهائي أيهما الحرفي الأعظم. قدَّم "زيوكسيس" لوحة لعنقود من العنب كعمل مشارك له.
وبحسب الكاتب الروماني "بليني الأكبر"، كان العنقود المتلألئ مقنعاً لدرجة أن الطيور انقضت عليه وحاولت أن تنقر هذا التصوير الجميل للفاكهة المبللة بالندى.
ولكن عندما حاول "زيوكسيس" بنفسه أن يزيح ستاراً وهمياً كان "بارهاسيوس" قد صوره ببراعة أكبر، اتضح من الذي فاز. الدرس المستفاد؟ إذا كنت تريد الفوز، يجب أن تخدع المخادع.
بعد أكثر من ألفي عام، وتحديداً في عام 1832، وجد الرسام الرومانسي البريطاني "جيه إم دبليو تيرنر" نفسه في مبارزة محتدمة مماثلة مع معاصره "جون كونستابل"، عندما عُلقت لوحتان لكليهما جنباً إلى جنب في معرض أقيم في "الأكاديمية الملكية" بلندن.
وُضعت لوحة "كونستابل" الواسعة والمزخرفة، "افتتاح جسر واترلو" (التي التقطت بدقة مذهلة فخامة ومظاهر موكب الأمير الوصي وهو يشق طريقه إلى مركب ملكي)، بجوار منظر بحري صغير نسبياً لميناء "هيلفوتسلاوس" الهولندي بريشة "تيرنر".
كان "كونستابل" قد عمل على قماشه المعقد والممتد لأكثر من عقد من الزمان. بينما بدا جهد "تيرنر"، الذي كان يمثل ثلث حجم لوحة "كونستابل" تقريباً، وكأنه مجرد رسم تخطيطي بالمقارنة.
وخوفاً من أن يتفوق عليه عمل "كونستابل" الأكثر تلميعاً، والذي جعل عمله يبدو ركيكاً وبسيطاً، سحب "تيرنر" فرشاة ورسم لطخة طلاء واحدة بلون أحمر ساطع على قمة موجة في مقدمة لوحته، وهي بقعة لونية نابضة بالحياة ومدهشة (تم تحويلها لاحقاً إلى عوامة) أضافت الغموض والدراما إلى المشهد الذي يبدو بسيطاً.
بمسحة من معصمه، قلب "تيرنر" ميزان اللوحتين لصالحه. وعندما أدرك "كونستابل" حركة "تيرنر" النارية، صرخ جملته الشهيرة: "لقد جاء إلى هنا وأطلق رصاصة"، والتي تعني هنا: الفوز لمن هو أسرع.
الآن، يمثل التوتر الفني المنعش بين الرسامين الرومانسيين البريطانيين محور معرض كبير في "تيت بريطانيا" (Tate Britain): "تيرنر وكونستابل، منافسون وأصول".
ويسلط المعرض الضوء على أكثر من 170 لوحة وعملاً على الورق، بما في ذلك لوحات لم تُشاهد في "بريطانيا" منذ أكثر من قرن، ويستكشف كيف شكّل جو المنافسة الضاغط فنهم وخيالهم وإرثهم.
على الرغم من أن منظر "هيلفوتسلاوس" لـ "تيرنر" لم يأتِ من "متحف طوكيو فوجي للفنون" في "اليابان"، حيث يقيم حالياً، لتمكين إعادة عرض المواجهة الشهيرة مع لوحة "افتتاح جسر واترلو"، إلا أن منظمي المعرض استدعوا بدلاً من ذلك زوجاً من الأعمال كان "كونستابل" نفسه، بصفته عضواً في لجنة التعليق في "الأكاديمية الملكية" قبل عام واحد، قد وضعها جنباً إلى جنب في عام 1831.
تلك المواجهة المنسقة، بين لوحة "تيرنر" "قصر وجسر كاليجولا" ولوحة "كونستابل" الخاصة "كاتدرائية سالزبوري من المروج"، شكلت بحد ذاتها لحظة رئيسية في مبارزة الفنانين التي استمرت عقوداً، واستفزت أحد النقاد للتأمل في الاختلاف الجوهري بينهما: "نار تيرنر ومطر كونستابل".
وُلدا بفارق عام واحد فقط ("تيرنر" في "لندن" المليئة بالدخان عام 1775، و "كونستابل" في قرية هادئة بمقاطعة "سوفولك" عام 1776)، وكانا منذ البداية نقيضين تماماً "كالنار والماء"، كما وصفهما ناقد آخر عام 1831. "
تيرنر"، الذي كان والده حلاقاً، بدأ دراسة الفن وهو في الرابعة عشرة من عمره، بينما لم يتفرغ "كونستابل"، المولود في عائلة ثرية من تجار الحبوب، للرسم حتى بلغ العشرينيات.
لم تؤثر طبائعهما ووجهات نظرهما المتباينة جذرياً على أسلوب كل منهما فحسب، بل أصبحت مصدراً لافتنان النقاد الدائم، الذين لم يملوا أبداً من وضع أحدهما في مواجهة الآخر.
بالنسبة لأحد النقاد المجهولين في مجلة "لندن" عام 1829، كان "كونستابل" "كل الحقيقة" بينما كان "تيرنر" "كل الشعر"، وخلص إلى القول: "أحدهما فضة والآخر ذهب".
ولكن ما الذي يتطلبه الأمر لتتصدر القمة؟ إن إلقاء نظرة على بعض من أعظم الخصومات في تاريخ الفن، من صراع عملاقي بين "ليوناردو دافنشي" و "مايكل أنجلو" في أوائل القرن السادس عشر إلى اشتباك شهير بين "فان جوخ" و "جوجان" قرب نهاية القرن التاسع عشر، يقدم أدلة مفيدة حول كيفية التصرف عند مواجهة منافس موهوب.
"دافنشي" في مواجهة "مايكل أنجلو"
وفقاً للكاتب الإيطالي "جورجيو فاساري"، وقعت إحدى أشد نوبات الكلام الجارح بين الخصمين الفنيين في شوارع "فلورنسا" حوالي عام 1503، عندما سمع "ليوناردو" مجموعة من الرجال يناقشون بعض السطور الغامضة لـ "دانتي".
نادى الرجال الرسام المشهور والموسوعي، وتوسلوا إليه أن يشرح المقطع الصعب.
لاحظ "ليوناردو" أن "مايكل أنجلو" كان يمر بالجوار حينها، فالتفت وقال للمجموعة: "هو سيشرحها لكم". شعر "مايكل أنجلو" بالاستهزاء، فرد بغضب، ساخراً من "ليوناردو" لفشله الشائن في إنهاء تمثال برونزي لحصان قبل سنوات: "اشرحها بنفسك، أيها النحات الذي يترك عمله في عار!".
شاء القدر أن يُكلف الفنانان المتناحران قريباً بإنشاء مشاهد معارك متنافسة على جدارين متقابلين في نفس الغرفة بـ "قصر فيكيو" (Palazzo Vecchio)ظن وهي مواجهة ظلت غير محسومة إلى الأبد حيث لم تُكتمل اللوحات الجدارية.
ومع ذلك، لا يوجد شك، من النسخ التي بقيت من الدراسات المجزأة للوحة "معركة أنغياري" لـ "ليوناردو" و "معركة كاشينا" لـ "مايكل أنجلو"، في أن الخصومة ركزت عضلات وعقول الرجلين وأشعلتها.
"تيتيان" بحضور "تينتوريتو"
بعض المنافسات تنضج ببطء. لنأخذ مثال "تيتيان" و "تينتوريتو". فمن المحتمل أن الأخير كان لا يزال مراهقاً عندما قام "تيتيان"، ملك "الفن البندقي" بلا منازع وسيد الألوان الرنانة، بطرد المبتدئ المبكر بـ "حسد" من مرسمه بعد ما يزيد قليلاً عن أسبوع.
هذه الإهانة، رغم أنها لم تُنسَ، لم تمنع "تينتوريتو" من متابعة مسيرة "تيتيان" عن كثب أو من دراسة كل ضربة فرشاة في لوحة "تقديم العذراء في الهيكل" لأستاذه المحتمل، والتي كان يزورها كثيراً في معرض "غاليري ديل أكاديميا".
تعهد "تينتوريتو" بأن يُظهر لـ "البندقية" طريقاً آخر، فابتكر في النهاية ، بعد 20 عاماً من تناول "تيتيان" لنفس الموضوع ، لوحته الخاصة "تقديم العذراء".
فبينما كان تناول "تيتيان" حذراً ومحسوباً في صعوده المدروس للدرجات الحجرية، منتقلاً من اليسار إلى اليمين، كانت رؤية "تينتوريتو" ديناميكية ومرتفعة، تجرف أعيننا إلى مجموعة متلألئة من السلالم.
فهل تفوق التلميذ السابق على المعلم؟ أحدهما منهجي ببراعة، والآخر يعكس الإعجاز.
"إليزابيث فيجي لو برون" ضد "أديلايد لابيل غيار"
بعض المنافسات ليست منافسات على الإطلاق. إنها مجرد اختراعات خبيثة. كان هذا هو الحال بالتأكيد في "باريس" أواخر القرن الثامن عشر عندما حصلت فنانتان، "إليزابيث فيجي لو برون" وهي الرسامة المفضلة لـ "ماري أنطوانيت" و "أديلايد لابيل غيار" وهي المدافعة الشرسة عن الرسامين النساء، على اثنين من الأماكن الأربعة التي خصصتها "الأكاديمية" على مضض للفنانات.
لقد جعلهما نجاحهما هدفاً للنميمة القبيحة بأن إنجازهما الحقيقي كان ناتجاً عن إغواء للحصول على عمولات قيّمة أو استمالة الفنانين الذكور لرسم أعمالهما. ومع ذلك، فبدلاً من أن ينقلبتا على بعضهما البعض، تحدت الاثنتان إصرار العصر على التقليل من شأن المرأة.
قد يبدو زوج من البورتريهات الذاتية المذهلة المرسومة بفارق بضع سنوات فقط، لوحة "لو برون" "بورتريه ذاتي بقبعة من القش، 1782"، ولوحة "لابيل غيار" "بورتريه ذاتي مع تلميذتين، 1785"، في الوهلة الأولى وكأنهما تتنافسان بهدوء في طبائعهما ونغماتهما المتباينة.
ومع ذلك، عند النظر عن كثب، فإن النظرات الثاقبة لـ "لو برون" و "لابيل غيار" متزامنة بشكل مدهش. إنهما تتقاسمان عزماً لا يتزعزع. لم يكن صراعهما مع بعضهما البعض، بل كان مع "التعصب الذكوري" في عصرهما.
"أورازيو جينتيليسكي" وابنته "أرتميسيا "
وفقاً لعلم أصول الكلمات، ترتبط كلمة "rivalry" (منافسة) بالكلمة اللاتينية "rivus" (أي "النهر الصغير")، وتوحي بالمشاركة في نفس المجرى.
قد يكون الزوج التالي، "أورازيو جينتيليسكي" وابنته "أرتميسيا"، قد بدآ بالتدفق من نفس المصدر العائلي، لكن المواقف المضطربة بشكل مؤلم في طريقهما ضمنت تباعد مساراتهما.
يُظهر زوج من اللوحات هذا التحول الفني والعاطفي بين الأب والابنة؛ فقد بدأ "أورازيو" العمل على لوحته "عازف العود" عام 1610، بينما يُعتقد أن "أرتميسيا" أنجزت "يهوديت تذبح هولوفرنيس" عام 1612.
ورغم أن كلتا اللوحتين تشتركان في أسلوب "التباين بين الضوء والظل" ، إلا أن رؤية "أرتميسيا" تنفرد بشراسة حشوية راسخة، تعكس تحرراً فنياً وعاطفياً مدوياً.
"فان جوخ" وصديقه "جوجان"
ربما تكون أسوأ طريقة لحل صدام في الطباع الفنية أو لترويض منافسة محتدمة هي التظاهر بأنها غير موجود!! فالفن عدو الوهم.
في عام 1888، فشل "فان جوخ" و "جوجان" فشلاً ذريعاً في محاولتهما لمزامنة ترددات أرواحهما الفريدة، عندما كانا يجربان العمل في مرسم مشترك في "البيت الأصفر" الشهير في "آرل".
كانت النتيجة كارثة وعنفاً، خرج "فان جوخ" بأذن مشوهة وهرب "جوجان" إلى "باريس". يروي زوج من البورتريهات التي تم إجراؤها خلال التجربة الفاشلة، لوحة "فان جوخ" "رجل في قبعة حمراء، 1888"، ولوحة "جوجان" "رسام عباد الشمس"، قصة باردة من نظرات مائلة وزوايا محرجة وعدم اهتمام متبادل.


