لم تكن الرصاصة مجرد جسم صلب، بل كانت صدى بارداً يتردد من السبعينيات، في ذاكرة المصور والمخرج السينمائي الذي وجد في الفن ملاذه وموطنه الجديد في لوس أنجلوس رالف زيمن.
صدى يومٍ في جوهانسبرغ، حيث التقى بصورة العنف لأول مرة على هيئة مسدس "ماغنوم" موجّهٍ إلى وجهه.
لم يختفِ ذلك الشعور أبداً، بل عاد ليخترق حياته مرات ومرات، تاركاً ندبة خفية جعلته يدرك أن العالم يحتاج إلى شيء أكثر من مجرد مواجهة العنف بالعنف.
من هذه التجارب القاسية، وُلدت لديه قناعة لا تتزعزع: أن الفن وحده قادر على أن يواجه سطوة الحديد والنار.
لأنه لم يستطع أن ينسى، قرر أن يواجه، ترك زيمن خلفه عالماً من الأفلام التي توثق ما حدث، ليخوض عالماً آخر يصنع فيه ما يجب أن يحدث.
أدرك أن أثمن ما يملك ليس الكاميرا، بل يديه وقناعته بأن الجمال قادر على هزيمة القبح. وهكذا، تحول من فنان يرى ويُظهر، إلى فنان يصنع ويُحوّل.
لأكثر من عقد من الزمان. استخدم عشرات الملايين من حبات الخرز اليدوية لتحويل أدوات الدمار إلى أعمال تنطق بالجمال.
يقول زيمن: "أريد أن أتحدث عن انتشار الأسلحة في جميع أنحاء العالم وعسكرة قوات الشرطة".
كانت رحلته أشبه بطقس قديم، يعيد فيه الروح إلى الأشياء. بدأ بصيد أشباح الماضي: بنادق "ايه كيه-47" التي تحولت من أيقونة للتحرير إلى أدوات للجريمة.
ثم أتى دوره على وحش مصفّح، مركبة "كاسبير"، التي كانت رمزاً للقمع، فنزع منها هالتها المخيفة وغطاها برقة الخرز.
لكن التحدي الأكبر كان في عام 2019، عندما قرر زيمن أن يغطي طائرة "ميغ-21" (MiG-21)، وهي أكثر الطائرات المقاتلة إنتاجاً في العالم. كان هذا الاختيار يحمل رمزية عميقة، فهو يعود إلى زمن الحرب الباردة، حيث كانت جنوب أفريقيا متورطة في صراعات بالوكالة كلفتها غالياً.
لم يكتفِ زيمن برسمها، بل قرر أن يكسوها بالكامل. كانت مهمة مستحيلة، لكنها كانت ضرورية، لأنها تمثل جوهر رسالته: تحويل آلة الدمار إلى رسالة سلام.
على مدى خمس سنوات، أصبحت ورشة زيمن في لوس أنجلوس خلية نحل. لم يكن يعمل بمفرده، بل كان معه فريق من أكثر من 100 فنان وحرفي، معظمهم من جنوب أفريقيا، ينسجون معاً قصة أمل.
كانت أياديهم، تحت إشراف ثينجيوي بريتي نكوجاتسي، تنسج قصيدة صامتة من الخرز. على جسد الطائرة العملاق، الذي يبلغ طوله 51 قدماً، تدفقت 35 مليون حبة خرز، كل منها تحمل وزناً رمزياً من الأمل، وتم وضعها كلها باليد، بلا مساعدة من آلة. لقد أثبتوا أن الفن لا يعرف المستحيل.
اليوم، تقف طائرة "ميغ-21" في متحف الطيران في سياتل، لم تعد وحشاً يثير الرعب، بل تحفة فنية تلهم الدهشة.
وستُعرض للبيع، ليُعاد ثمنها إلى الحياة مرة أخرى، فيتم تمويل تعليم أطفال الحرفيين الذين ساهموا في هذا العمل، وتقديم العلاج بالفن لأطفال أوكرانيا الذين مزقت الحرب طفولتهم.
وفي النهاية، يعود رالف زيمن إلى ذاته. ينظر إلى عمله ليس كفنان يتباهى بإنجازه، بل كإنسان وجد أخيراً طريقة لتهدئة صدى تلك الطلقة الأولى في ذهنه. لقد أثبت أن الفن لا يقتصر على اللوحات والمعارض، بل هو فعل تغيير، وتحويل، وحب.
فبين رصاصة أطلقت الشرارة الأولى للعنف، وخرزة نسجت نهاية تلك القصة، تتشكل فصول تاريخ جديد، تاريخ يصنعه من يؤمنون بأن الجمال هو سلاحنا الأقوى.


