تواصل فعالية «ليالي سينيوليو» السينمائية، رسم ملامح الدهشة وتعزيز ارتباط الجماهير بـ «الفن السابع»، من خلال عروضها الفنية الرائعة التي تحتضنها بين الحين والآخر مكتبة محمد بن راشد في دبي، حيث النقاشات الثرية التي تتفاعل مع الأفلام القصيرة ذات الدلالات الفكرية العميقة، والتقنيات الإبداعية التي يتم توظيفها برؤى واعية.
وخلال أمسية مشوقة، قدَّم لها أخيراً المخرج الإماراتي نواف الجناحي، كان الحضور على موعد مع 4 أفلام، طافت بهم بين بلدان مختلفة: المكسيك، وبنغلاديش، وروسيا، وأمريكا، لتوسّع مدارك المشاهدين تجاه عالمية الفن السينمائي، وترفد ذائقتهم بأنواع شتى من الإبداعات المنبثقة من مدارس سينمائية متنوعة. وفي ما يلي قراءة تضيء على بعض الملامح الفكرية والسمات الفنية التي حفلت بها تلك الأفلام.
«القطط»
في رحلة عاطفية عميقة، تتجاوز مجرد قصة حيوان أليف، يمضي الفيلم المكسيكي «القطط» (The Cats)، من إخراج أليخاندرو ريوس، بالمشاهد في أعماق فكرة البحث عن الانتماء، ويغوص في تعقيدات الاختيار بين الحرية القاسية، ودفء الأسْر الذي قد يكون له ثمن خفي، معتمداً على ثنائية الشارع والمنزل.
ويمثل القط الضال في أحداث القصة نموذج الروح الحرة التي خبرت قسوة الشارع، وبحثت عن البقاء، وعايشت التحديات والمخاطر، وعرفت قيمة الاستقلالية، إلى أن يجد القط نفسه في كنف رجل أرمل مسن، وحينها تتغير حياته جذرياً، حيث يجد الرعاية والطعام والدفء، ما يُكسبه شعوراً بالترحيب بهذه الحياة الجديدة، لكن سرعان ما يبدأ الصراع النفسي.
وبين خياري الأمان والدفء والاستجابة لنداء الشارع وحريته، يقف القط بطل الفيلم حائراً، الأمر الذي يضفي على الأحداث لمسة حيوية جاذبة. وخلال الأحداث، تبرز الحاجة المشتركة بين الإنسان والحيوان إلى الانتماء، وكيف يمكن لعلاقة غير متوقعة أن تغيّر حياة طرفين، إذ يشكّل قرار القط النهائي ذروة درامية، تجعل المشاهد يتأمل معنى الوطن الحقيقي، ومن ثم يظهر العمق الاجتماعي للقصة، التي نجح صنَّاع العمل في سردها بمهارة، عبر تجربة سينمائية مؤثرة، تستخدم تقنية الرسوم المتحركة.
«ذات يوم في واري باتيشوار»
يقدّم الفيلم البنغلاديشي «ذات مرة في واري باتيشوار»
(Once Upon a Time in Wari Bateshwar)، من إخراج راجيب رافي، رؤية فلسفية للحقيقة والأسطورة، متكئاً على قدر كبير من الغموض الذي يكتنف الأماكن، حيث تدور الأحداث في واري باتيشوار، الموقع الأثري في بنغلاديش، الذي يكتظ بالأدغال، ويحفل بأجواء التشويق والرهبة.
ويطرح الفيلم سؤالاً حول اختفاء شخص يُدعى «علاء الدين»: «هل علقت روحه بين الحياة والموت في الآثار القديمة؟»، وخلال مسارات مشابكة يترك الباب مفتوحاً أمام عدد من التفسيرات المثيرة للتأمل، وذلك عبر مجموعة من الشخصيات (الزوجة الخرساء، وحارس المرمى القزم، والأب الثاكل، والباحثان عن الكنوز). العمل، الذي حظي بإشادة دولية، واختير للمشاركة في مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة، يوصل رسالة عبر الثقافات، ويمزج بين الأسطورة والدراما الإنسانية، ويدعو المشاهد إلى التفكير في دوافع تحرُّك البشر في بحثهم عن المفقود.
«البحر يرتفع عالياً، واحد»
«البحر يرتفع عالياً» لوحة سينمائية تلامس الألم الإنساني العميق، وتداعياته النفسية الصامتة، تصنع حبكة الفيلم الروسي «البحر يرتفع عالياً، واحد» (The Sea Runs High, One)، من إخراج إيفجينيا كورتشاجينا، وذلك عند بلوغ لحظة مفصلية، تتهشم فيها روح سيدة تكتشف فقدان جنينها.
ويجري توظيف بعض الأساليب الفنية المعبّرة عن قسوة الموقف، مثل رمزية البحر الهادئ ذي الخلفية المؤثرة، فبينما يبدو السطح ساكناً، تعصف في دواخل البطلة زوابع نفسية عاتية، تعكس عنوان الفيلم، ليعكس ذلك عالمها الداخلي المضطرب، إذ يمثل الهدوء الخارجي عجز العالم عن فهم عمق ألمها.
ويركز الفيلم على الدراما النفسية الدقيقة، مستخدماً لغة سينمائية هادئة ظاهرياً، لنقل صخب المشاعر الكامنة، ومقدماً تأملات في قضايا نفسية شائكة ومتداخلة.
«ظل»
الرعب النفسي هو اللغة التي فضَّلت استعمالها المخرجة كاميل آلاواي في الفيلم الأمريكي «ظل» (Shadow)، للتعبير عن قضايا عميقة، تتعلق بالصحة العقلية وصدمات الأجيال، والولوج إلى أغوار الذات المظلمة، عبر جماليات بصرية آسرة، تم تصويرها بالأبيض والأسود.
وتدور أحداث القصة خلال ليلة واحدة، حيث يتخذ ظل أم شابة حياة خاصة به، ويبدأ في ترويعها هي وابنتها، ليشكل رمزاً تعبيرياً عن مخاوف الأم الداخلية، وتجسيداً بصرياً مبتكراً، ويتجاوز مجرد كونه كائناً مخيفاً، ضمن أجواء بيئية تنضح بالفقر والإهمال، لتتآزر العناصر الفنية جميعاً، وتفتح الباب على مصراعيه لتأويلات عديدة.
وتتجلى البراعة حينما يتحرك الظل وينمو ويتضخم، الأمر الذي يؤدي تدريجياً إلى تزايد الكآبة والتوتر المستمر، وتحويل مسرح الأحداث (المنزل)، إلى مسرح للأهوال، دون أن ينزلق الفيلم إلى الرعب السطحي. ويتطرق الفيلم إلى جزئية مؤلمة، ترتبط بواقع الإدمان، إذ يتحول الكيان الخارق إلى مرآة تعكس تجربة المدمن ومعاناته، وعندها يتم تقديم الإدمان بوصفه قوة خارجية مرعبة، تسيطر على الضحية، وتغزو حياتها عبر رمزية الظل، ويظهر هذا بجلاء، حين ينفصل الظل عن الأم، ويكتسب حياة مستقلة، ويبدو مسيطراً على حياتها، ويقاتل بعنف وتهوّر خارج إرادتها.

