تتسم لغة الشعر بكثافة إيقاعاتها المتناغمة وتجاوب قوافيها التي تجتذب أسماع الجماهير، وتعتمد في مخاطبة المتلقي على جماليات انسجام الألفاظ وموسيقاها المطربة، ما يجعل الشعر في الأساس إبداعاً شفهياً قبل أن يكون مكتوباً.
وفي العربية الفصحى، كانت القواعد المنضبطة على مستوى النحو والصرف والإملاء ضمانة لتوثيق القصائد الجياد؛ إذ مكَّنت الشعراء من حفظ إنتاجهم الإبداعي وتدوينه على نحو يحمي هذا التراث الضخم من التحريف والضياع.
أما في اللهجات المحكية، التي تمثل وسيلة تخاطب الشعوب العربية باختلاف ألسنتها، فلم يمضِ الأمر على الوتيرة ذاتها؛ نظراً إلى عدم وجود قواعد متفق عليها على غرار ما هو في العربية الفصحى، ما فتح مجالاً لبعض الاختلافات التي تعتري طريقة الكتابة باختلاف رؤى الأشخاص.
كل ذلك فرض تحديات أمام تدوين الأشعار العامية، التي كان الشعر النبطي أحد أشكالها، بما يمثله من قيمة تراثية كبرى في الإمارات على وجه الخصوص، ومنطقة الخليج عموماً، الأمر الذي يثير تساؤلات عن كيفية تغلُّب شعراء الإمارات على صعوبات عدم وجود قواعد موحدة للهجة المحكية، وعن حقيقة الأساليب التي مكنتهم من تحويل هذا الإبداع الشفهي إلى أدب مكتوب لا يتأثر بمرور الزمن وكرِّ الدهور.
الأداء والإنشاد
وفي هذا السياق، أوضح الباحث في التراث والأدب العربي فهد علي المعمري، لـ«البيان»، أن تدوين الشعر النبطي واجه منذ بداياته تحدياً أساسياً يتمثل في غياب قواعد إملائية موحدة للهجة المحكية؛ فالنبطي في أصله شعر مسموع وشفهي، يقوم على الأداء والإنشاد أكثر مما يقوم على التدوين، وعند الانتقال من المشافهة إلى الكتابة ظهرت إشكاليات متعلقة بكيفية رسم الألفاظ، مشيراً إلى أن اللهجة ليست مقعَّدة إملائياً كما في العربية الفصحى، وهذا ما جعل بعض الكلمات تُكتب بأكثر من صيغة، فيربك الأمر القارئ ويضعف دقة التلقي.
وقال: «إن اختلاف كتابة بعض الألفاظ العامية قد يؤدي أحياناً إلى إحداث خلل في إدراك المعنى أو الإحساس بالموسيقى الشعرية، على سبيل المثال: كلمة «ظما»، وهي العطش، قد تُكتب ظمأ على طريقة الفصحى، فينشأ اختلاف في الإيقاع والموسيقى الداخلية لوزن القصيدة، وكذلك كلمة «شرتا»، وهي الهواء الذي فيه حركة بين الخفيفة والمتوسطة، تُكتب بصيغ عدَّة، مثل: «شرتا، شرتن، شرتً، شرتٍ، شرتَ»، وهذه الفروق البسيطة في الرسم الإملائي تؤثر في التذوق الإبداعي للشعر؛ لأن الشعر النبطي يعتمد على الإيقاع السمعي والجرس الصوتي».
وبشأن تعامل شعراء الإمارات النبطيين مع ظواهر التدوين، بيَّن المعمري أنهم لجؤوا إلى حلول عملية لضبط النصوص، من أبرزها كتابة التنوين على هيئة نون ساكنة في القافية، كما عمدوا إلى إشباع الكسرة بالياء أو الضمة بالواو في أواخر الأبيات الشعرية تحقيقاً للمدّ الصوتي الذي يتطلبه الوزن والغناء.. وأيضاً إثبات الياء في آخر كلمة القافية وإن لم تكن أصلية، مثل: «المكاني، الزماني، الحناني، الخيزراني»، والأصل فيها أن تُحذف الياء؛ لأنها غير أصلية، وتعوَّض بالكسرة، وتُثبت الياء في حال كانت أصلية مثل: «رماني، سباني، بلاني».
وأضاف: «هناك نموذج آخر وهو إثبات الألف في بداية الكلمة التي ليس الألف فيها أصل، وإنما يتم تسكين الحرف الأول بدلاً من الألف مثل: «رماني ابعينه»، وهي تُكتب كما تُلفظ، والأصل فيها «رماني بْعينه»، ومن هذا كثير»، مؤكداً أن هذه الأساليب لم تكن أخطاء، بل كانت أدوات فنية لتقريب النص المكتوب من النطق الشفهي وضمان انسجام الوزن.
مصلحة المتذوق
ورأى الشاعر أحمد بن غافان المهيري أن التحدي بين الشاعر والأبيات الشعرية كان في مصلحة القصائد النبطية، بحيث يستفيد منها في النهاية المتذوق للشعر؛ وذلك لإبداع كل شاعر على حدة في اختيار الكلمة المنتقاة من لهجته المحلية.
وقال المهيري: «لم يكن هناك اختلاف سلبي، بل على العكس، كان هذا الاختلاف في المعنى مفيداً للساحة الشعرية، بحيث أضاف جمالاً وخيارات أكثر للشاعر لينتقي أفضل المعاني لقصائده الشعرية»، مستشهداً على ذلك بمثال كلمة «عين» في الشعر النبطي الخليجي التي قد تحمل معاني متعددة، مثل العين الباصرة، أو مصدر الماء، أو دلالة على الشخص العزيز، ما يتيح للشاعر تنويع المعاني بإبداع. وأكد أن الشعراء نجحوا، بفضل خبرتهم وتبحرهم، في التعامل مع التنوين نوناً وإشباع الكسرة بالياء؛ وذلك لتسهيل وصول القصيدة إلى المتذوق بكل سهولة ويسر، ولضمان وصول المعنى المقصود في القصيدة بوضوح.


