الرواية والتاريخ.. مدارات الأصالة وتساؤلات الأدوار والاستلهام

1045670_BYN_22-10-2024_p27
1045670_BYN_22-10-2024_p27
فرحان ريدان: فن وفد إلى أدبنا يستلهم الماضي لمواجهة أسئلة الراهن
فرحان ريدان: فن وفد إلى أدبنا يستلهم الماضي لمواجهة أسئلة الراهن
غيثاء قادرة: التاريخ المطروح في الرواية العربية إيجابي وسلبي
غيثاء قادرة: التاريخ المطروح في الرواية العربية إيجابي وسلبي

تعتبر الرواية التاريخية من أكثر أنواع الروايات أهمية، يتكئ كاتبها على أحداث معينة، يمازج ما بين الواقعي والتخيلي ليقدم شكلاً إبداعياً ناضجاً، من خلال قضايا معاصرة تعتمد على إحياء تلك الأحداث التاريخية لحقيقتها وطبيعتها دون الاعتماد على السرد التاريخي البحت.

ورغم اتفاق الكثير من الأدباء والنقاد على الخطوط العريضة فيما يخص استحضار الأحداث التاريخية لبناء هذا العمل الفني، يتساءل بعضهم، ومنهم الناقدة السورية والأستاذة الجامعية في اللغة العربية غيثاء قادرة «هل هناك رواية فنية خالصة لا تتكئ على أحداث ووقائع تاريخية؟»، لافتة إلى «وجود نوعين للرواية التاريخية، الأول إيجابي محمول على الانتصارات، والثاني مستمد من هزائم الأمة العربية».

وبالمقابل، يرى الكاتب والروائي السوري فرحان ريدان أن الرواية التاريخية فن وفد إلى الأدب العربي. ويشير إلى أن الرواية التاريخية العربية استلهمت التاريخ لمواجهة أسئلة الراهن وكي تحث الناس على المجد والقيم العليا والإسهام في مسيرة الحضارة الإنسانية.

تنطلق الناقدة والأستاذة الجامعية الدكتورة غيثاء قادرة من مقولة للروائي المصري صُنع الله إبراهيم «المؤرخ الجيد هو الروائي»، متسائلة «هل توجد رواية فنية خالصة من غير وقائع تاريخية». وتتابع قادرة: «ليس خافياً على دارسي الأدب كون التاريخ مصدر إلهام لعديد من الروائيين الغربيين والعرب».

وتتساءل: «هل كاتب الرواية التاريخية أمين في نقل أثرها التاريخي؟ وهل كان لتمازج التاريخ بالأدب أثر بيّن في التركيبة المجتمعية وتقدمها، بعد أن رصدت الرواية مثالب التاريخ أو بروقه وأضواءه؟ هل استفاد العرب من هذه الملامح في تجاوز سَقَطاتهم، أم بقي التاريخ يزين صفحات الرواية ويقدّم مادة خاماً لسردية غنية بالأحداث والرؤى والمواقف؟ لافتة إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة تبقى رهن ثقافة القارئ، ومحور إيمانه بموضوعية التاريخ وأثره البين».

وتتابع قادرة: «ثمة نوعان للتاريخ المطروح في الرواية العربية؛ إيجابي: محمول على الانتصارات وتمجيد العرب؛ انتصاراتهم وصمودهم بوجه الأعداء، وسلبي: يسطّر هزائم العرب ونكباتهم، واحتلالهم، ومن الواضح سطوة النوع الثاني على الأول بعد أن فرض نفسه بقوة على الساحة الأدبية؛ بوصفه صراعاً وجوديّاً بين قوى غير متكافئة، برؤاها ومنطلقاتها وجدلياتها».

وتردف: «قد لا يكون سهلاً نقل الحدث التاريخي بحرفيته إلى صفحات الرواية؛ إذ يلجأ الكاتب إلى التخييل لتشكيل مادته السردية متكئاً على الحادثة التاريخية؛ لخلق الإنتاج الروائي الذي تحفل به رفوف المكتبة العربية المعاصرة، الإنتاج الذي سطرته أقلام من عايشوا الحرب وخاضوا غمار وغاها فأُنْتج ما يسمى بـ «أدب الحرب»، ولنا في تأريخ الحرب السورية فنيّاً عشرات الروايات التي وصفت وقائع الملاحم المأساوية التي أحدثت رقعة هائلة من الخراب والدمار».

واستشهدت الناقدة قادرة بعدد من الكتاب الذين أرخوا للحرب في سوريا، مثل رواية «عمت صباحاً أيها الحرب» للكاتبة مها حسن، ورواية خالد خليفة (الموت عمل شاق).

وتوضح قادرة بأنه ضمن السرد التاريخي المتخيل، صاغ عديد من الروائيين في كتاباتهم، باستثمار التاريخ من خلال عملية المزاوجة بين الواقع والمتخيل من مثل: جمال الغيطاني وعبدالرحمن منيف والطاهر وطار وواسيني الأعرج... إلخ.

وتشير إلى أنه من أنواع الرواية التاريخية: نوع يضعك في قلب التاريخ بكل تفاصيله، ونوع يستعيد المناخ التاريخي فقط ثم يتحرك بحرية، غير بعيد عن المنطقي والتفسير العقلاني لكل الحوادث التي تُعرض، وهذا ما يزيد نسبة الوعي عند القارئ.

وتنوه قادرة بأن أهمية التاريخ في الرواية أو أهمية الرواية تأتي في نقلها أحداث التاريخ من الأثر المباشر أو غير المباشر الذي يحدثه أو يحفره هذا التاريخ في ذات المتلقي.

واختتمت: «تنجح الرواية التاريخية بقدر مصداقيتها وأمانتها وموضوعيتها في نقل الأحداث التاريخية المهمة في كل عصر، والربط بينها وبين الحاضر بأسلوب إبداعي».

يقول الروائي فرحان ريدان لـ«البيان» بأنه «تنبغي الإشارة أولاً، إلى أن والتر سكوت هو الذي أسهمَ بشكل كبير في التأسيس لما اصطُلح على تسميته الرواية التاريخية في الأدب العالمي، وإلى مساهمة ألكسندر دوماس في تطوير هذا النوع السردي الذي وفد إلى الأدب العربي، حيث كان جرجي زيدان أول من بادر إلى كتابة روايات تاريخية عربية، ثم تزايد الاهتمام بهذا الفن وبدأت تظهر روايات تاريخية في معظم العواصم العربية».

ويتابع: «لا يسعنا إلا التوقف قليلاً عند بعض هذه الروايات باعتبارها من المحطات الهامة في مسيرة الرواية التاريخية العربية إذ تتعذر الإشارة إلى جميع هذه الروايات، وإذا كنا نشير إلى روايات بعينها فهذا لا يعني التقليل من أهمية أي رواية أخرى».

ويردف: «لا بد من التفريق بين التاريخي والتخييلي، بين الواقعي والتمثيلي، بين اليومي والرمز، والتفريق هنا لا يعني الفصل، إذ إن التأريخ يروي أحداثاً وقعت، بينما تقدم الرواية إمكانيات احتمالية متعددة لوقائع كان يمكن أن تحدث، وبالتالي فإن المهمة التي ينهض لها المؤرخ تختلف عن المهمة التي ينهض لها الروائي».

ويشير إلى أن ثمة أحداثاً في التاريخ نظن أنها صارت ماضياً لكنها تعاود الظهور من جديد بملامح مختلفة ظاهرياً، غير أن الجوهري فيها هو ذاته وهنا تكمن أهمية الرواية التاريخية التي تلتقط هذا الجوهري الذي يتموضع في مفاصل التاريخ وتأثيراته في حياتنا اليومية.

ويستشهد ريدان برواية «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ التي تستلهم التاريخ المصري الفرعوني عندما هبَّ الشعب بقيادة أحمس لمواجهة الغزاة الهكسوس والذود عن أرضهم وعزة بلادهم، وقد كتب محفوظ هذه الرواية في الفترة التي كان فيها الحاكم التركي يقبع في السراي المصري، وجنود الاحتلال الإنجليزي يجوبون شوارع القاهرة.

ويضيف: «كفاحُ طيبة» تستنهض همم الشعب المصري ليثور في الحاضر الراهن، وينتزعَ حريته وكرامته الإنسانية واستقلال بلاده مثلما ثار ضد الهكسوس، فالحرية والكرامة والمصالح العليا للأوطان هي القيم العليا، هي الجوهر الذي تلتقطه الرواية التاريخية دون تفريط بالعناصر الفنية، والإمتاع، وجماليات السرد، وهذا ما حرص عليه وأنجزه نجيب محفوظ في كفاح طيبة.

ويتابع: في رواية «الفهد» للكاتب حيدر حيدر استلهام لتاريخنا القريب، حيث كانت فرنسا قد رحلت، وفق الرواية (والفلاحون الذين قاتلوا الغزاة لم يجنوا سوى مخافر الشرطة الوطنية، الفلاحون الفقراء والتعب والمرارة في ضفة والملاك والراحة والدرك في الضفة الثانية)، وفي رواية «أنوبيس» للكاتب إبراهيم الكوني، بحسب ريدان، استلهام للتاريخ والأسطورة وحكايات الجدات.

ويختم ريدان: «إن الرواية التاريخية العربية قد استلهمت التاريخ لمواجهة أسئلة الراهن، وكي تحث الناس على المجد وأصالة الانتماء، وعلى القيم العليا والإسهام في مسيرة الحضارة الإنسانية، وهي، ذهابها إلى الجوهري في حياة الناس قدمت لقرائها الإمتاع الفني، وحرضت فيهم الهممَ والأسئلة الحاسمة دون أن تفرط بجماليات فن السرد».