قناة دبي المائية.. مجرى يتدفق بثقافات الشعوب

موزة غباش
موزة غباش

في دبي التي يمتزج الإبداع فيها بكل مجالات الحياة، تبدو قناة دبي المائية أكثر من مجرد مجرى مائي، يصل «الخور» بمياه الخليج المفتوح، مروراً بأهم أحياء المدينة ومعالمها، وسواء كان المرء على متن «حافلة مائية»، أو يزجي الوقت بالمشي على المماشي على طرفيها، أو يجلس في واحد من الأماكن المطلة عليها، فإنه يصل إلى النتيجة عينها: قناة دبي المائية.. مجرى يتدفق بثقافات الشعوب!

رحلات بحرية

تتميز قناة دبي المائية برحلاتها البحرية، التي تمثل كل واحدة منها رحلة تجوال بين ثقافات الشعوب، التي احتضنتها دبي بتنوعها، وتظهر هذه الثقافات مجسدة بالإنسان الذي تجذبه القناة إليها، أو إلى أحد طرفيها، فالقناة أيضاً نقطة جامعة، وحولها تظهر اهتمامات الإنسان وثقافته الخاصة من خلال أنشطته، وأسباب تواجده بقرب القناة، فهناك من يجد فيها مكاناً يوفر له خلوة خاصة، وهناك من يعتبرها مكاناً للأنشطة العائلية، وغيرهم يرى فيها مكاناً مناسباً لمزاولة الأنشطة الرياضية وغيرها الكثير.

في سياق مشابه فإن الرحلات البحرية التي توفرها القناة تمثل رحلة في الزمان، ونافذة يطل منها المرء على عملية تشكل المدينة بأحيائها المختلفة، بينما الرحلات التي تنطلق من بداية الخور إلى نهاية القناة، هي بالتأكيد رحلة في تاريخ دبي نفسها. من دبي البدايات التي تمثلها الأحياء القديمة والتراثية مثل الشندغة، إلى دبي المعاصرة التي تمتد حتى نقطة الالتقاء بمياه الخليج.

وتقول الدكتورة موزة غباش، رئيسة رواق عوشة بنت حسين، أستاذة علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الإمارات سابقاً، في معرض الحديث عن القناة: «تمثل قناة دبي المائية تجسيداً لعبقرية الرؤية، فمثلما كان توسيع خور دبي، يمثل تجسيداً لبعد نظر المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، فإن قناة دبي المائية تمثل عبقرية رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، فهي تربط بين مناحي الحياة بوشائج الثقافة واستخدام عبقرية المكان التي تتمثل في دبي وطبيعتها».

وتضيف: «أحسب أن مياه قناة دبي هي حبر ثقافي، بمعنى الثقافة الشامل والحياتي، يكتب حاضر دبي ومستقبلها، بأحرف تجعل من المدينة جملة متصلة، مكتملة المعنى، وفيها يتحقق جمال الصياغة والبناء، إلى جانب نُبل، ولهذا فإن قناة دبي المائية هي فعلاً أكثر من مجرد قناة، إنها مجرى ثقافي متكامل».

معرض ثقافي

من يجلس أو يتمشى على أحد طرفي القناة، يمكنه أن يراقب مرور اليخوت والمراكب، التي يستأجرها أبناء الثقافات المختلفة ليحتفوا فيها بمناسباتهم الخاصة، وغالباً ما تعكس مثل هذه الرحلات باللون والصوت الهوية الثقافية المميزة لأصحاب تلك المناسبات، وفي أحيان كثيرة حينما تنشط مثل هذه الرحلات، في مواسم المناسبات، يبدو الأمر شبيهاً بمعرض ثقافي حيّ.

ويمكن للمرء من مكانه على أحد طرفي القناة أن يتمعن بالخيارات الموسيقية، وشكل التفاعل الإنساني على المراكب المارة، ليكتشف أنه احتك للحظات بثقافة ما، ولامس طبائع إنسانية مختلفة، لها جذورها الحية في بلادها وتجد في دبي وقناتها على وجه التحديد، البيئة المناسبة للتعبير عن الذات.

ويقول ضرار بالهول الفلاسي، كاتب وإعلامي: «إن دبي تكاد تمتلك المحفظة الحضارية الأهم في المنطقة، بما فيها من مشاريع ومعالم مبتكرة، لها دلالاتها الحضارية ووظائفها الثقافية المميزة. ومن هنا، فإن رؤية القيادة الرشيدة، التي تضيف كل يوم شيئاً جديداً مبتكراً إلى هذه المحفظة، اعتنت بالمضامين في الوقت الذي كانت تهتم فيه بالقسمة الحضارية للمنجزات. وقناة دبي المائية بلا شك هي تجسيد لهذا المفهوم الرائد، الذي يزخر بالمعاني التي تربط الإنسان بالمكان، وتعزز علاقة الإنسان بالإنسان.

سحر العمارة

يتفاجأ المرء على متن أي من القوارب التي تعبر القناة، خصوصاً أولئك الذين يعتقدون أن العمارة الحديثة صامتة ومتشابهة بمقولاتها، بأن هذه العمارة تتحدث بإسهاب عن الماضي والمستقبل، وتحاور ثقافات معمارية وأنماط حياة مختلفة، وأنها متنوعة وثرية بمقولاتها الحضارية، التي تحيل إلى إرث إنساني كبير وهائل في الثقافة والعلوم والفنون والتراث العالمي.

والعمارة التي تحفل بها القناة لا تتوقف على الأبراج فقط، ولكن الجسور أيضاً، وهي خمسة، تمثل جزءاً رئيساً منها، خصوصاً جسور المشاة المميزة، التي تتيح العبور من طرف إلى آخر، إضافة إلى الشلال البديع على جسر شارع الشيخ زايد، بكل إيحاءاته الجمالية الخلابة، المثيرة للانفعال الجمالي والتأمل العقلي.

إن قناة دبي المائية تقدم للإنسان تجربة إعادة تعديل زاوية النظر إلى الحياة، ومعانيها. وكذلك الانفتاح على حقيقة التنوع الإنساني، بكل ما في ذلك من إيقاظ للحس الإنساني والحضاري.

هذا كله، يجعل المرء يتقين أن لا غرابة في أن قناة دبي المائية، أصبحت من أبرز معالم دبي منذ إنشائها عام 2016، فهي كل هذا الأثر الإنساني، علاوة على أنها تجسد أهم المشاريع الهندسية المبتكرة في دبي.

وحول هذا يضيف ضرار بالهول الفلاسي: «يمكن القول بكل بساطة أن قيمة قناة دبي المائية لا تقتصر على أهميتها الحضرية والاقتصادية، ولكن بدرجة لا تقل عن كل ذلك بمعانيها الثقافية، وبما يمكن أن تمثله من بيئة حاضنة للثقافات، التي هي عنوان وجود الإنسان المعاصر. وأعتقد أن الإنسان الإماراتي في دبي، وكذلك المقيم، سيكتشف بمرور الوقت أن قناة دبي المائية هي أكثر بكثير من أن تكون مجرد مجرى مائي؛ إنها نهر حضارة.