بنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أطروحته الاقتصادية في ولايته الأولى (2016 - 2020) على الرأسمالية الصناعية، وإعادة المصانع إلى الولايات المتحدة. واستمر في هذا الاتجاه في ولايته الثانية، مع الانتقال إلى طور آخر من التفضيلات الرأسمالية، وهو الذكاء الاصطناعي، المخالف لنمط رأسمالية المصانع التي تستوعب عدداً كبيراً من الوظائف.
لكن أطروحة ترامب لم تقتصر على ذلك، بل انتقل إلى نمط لم تعهده الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية الكبرى في عام 1929 حين طبق الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت نظرية المفكر الاقتصادي جون ماينارد كينز عبر أطروحة "الصفقة الكبرى" حيث تدخلت الحكومة الأمريكية في الاقتصاد عبر رأسمالية دولة منظمة ومؤسسية، وما يحدث اليوم في عهد ترامب له سوابق تاريخية، لكنها تتم بأدوات تدخل فيها المقايضة وليس الإشراف والتنظيم، وهذا ما أربك بداية الرؤساء التنفيذيين للشركات الكبرى، ودفع عدداً متزايداً من الشركات إلى إعادة صياغة علاقتها بالحكومة، ضمن قواعد جديدة تعيد رسم حدود السوق والدولة في الولايات المتحدة.
ورصدت صحيفة "وول ستريت جورنال" رؤى الرئساء التنفيذيين حول نمط "رأسمالية الدولة" لدى ترامب، فقبل أيام حصلت شركة إنفيديا على إذن لبيع أحد أكثر رقائقها تقدّماً إلى الصين. لكن بشَرط واحد: أن تحصل الحكومة الأمريكية على 25% من عائدات تلك المبيعات.
تقول صفقة إنفيديا الكثير عن طبيعة العلاقة بين عالم الأعمال والحكومة في عهد الرئيس دونالد ترامب. فتدخّلاته المتكررة في غرف مجالس الإدارة—سواء عبر الاستحواذ على حصص ملكية، أو اقتطاع نسب من الإيرادات، أو امتلاك «سهم ذهبي»، أو عبر الضغط على الشركات لخفض الأسعار أو بيع الأدوية عبر موقع فيدرالي—تشكل نموذجاً من «رأسمالية الدولة»، حيث لا تمتلك الدولة الشركات بالضرورة، لكنها تستخدم نفوذها الواسع لتوجيه سلوكها.
ورأسمالية الدولة طريق ذو اتجاهين. فالكثير من الشركات، عبر مواءمة نفسها مع أجندة ترامب، تحظى بمعاملة أفضل—في قدرتها على البيع للصين، وفي حجم الرسوم الجمركية التي تدفعها، وفي طريقة تنظيمها، وحتى في عمليات الاندماج التي يُسمح لها بإتمامها. ووفق وول ستريت جورنال، فإن رأسمالية الدولة لا تخدم فقط مصالح الحكومة الأمريكية، بل أيضاً مصالح الرأسماليين المقرّبين.
فعلياً، تدفع إنفيديا ثمناً لرخصة كانت في السابق مجانية، لكنها لم تُبدِ اعتراضاً. فهي في المقابل تحصل على إمكانية الوصول إلى سوق مربحة كانت ستبقى مغلقة في وجهها. ففي أغسطس، وبعد وقت قصير من اقتراح ترامب لأول مرة اقتطاع 15%، قال الرئيس التنفيذي للشركة جنسن هوانغ في مقابلة: «أيّاً يكن المطلوب للحصول على الموافقة وتمكيننا من البيع في الصين، فنحن موافقون عليه».
ويبقى السؤال: هل هذه العلاقة الوطيدة بين الدولة وبعض الرأسماليين مفيدة للبلاد؟
فرأسمالية الدولة ليست اشتراكية، حيث تمتلك الحكومة وسائل الإنتاج، وليست أيضاً رأسمالية السوق الحر. إنها نموذج هجين، ظهرت أشكاله المختلفة منذ زمن طويل خارج الولايات المتحدة. وقد كانت شائعة في اليابان وأوروبا الغربية، ولا تزال حاضرة بقوة في الصين وروسيا ودول أخرى بدرجات متفاوتة.
في الولايات المتحدة، كان استحواذ الحكومة على حصص في الشركات أو تسخير إنتاجها محصوراً بالحروب أو حالات الطوارئ مثل الأزمة المالية أو جائحة كوفيد. أما ترامب، فقد جعل ذلك ممارسة اعتيادية.
وقال ترامب لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأسبوع الماضي: «أعتقد أنه ينبغي لنا أن نمتلك حصصاً في الشركات. قد يقول البعض إن هذا لا يبدو أميركياً. لكنني في الواقع أراه أميركياً جداً».
خلف الأبواب المغلقة، وفق الصحيفة، ينفر كثير من قادة الأعمال من تدخلات ترامب، تماماً كما يستنكرون هجماته على الاحتياطي الفيدرالي، وعلى مكاتب المحاماة ووسائل الإعلام التي تعارضه. لكن علناً، يلتزم معظمهم الصمت، بل إن بعضهم يُظهر دعماً واضحاً. وتعود الأسباب إلى عوامل معقّدة. الخوف أحدها. لكن التماهي مع أجندة ترامب الأوسع سبب آخر. وبعد ما اعتبره كثيرون «هجوماً تنظيمياً وتنفيذياً» في عهد الرئيس السابق جو بايدن، يشعر عدد كبير من رجال الأعمال الآن بالارتياح لتعيينات ترامب المؤيدة لقطاع الأعمال. فقد شرع في تقليص القيود الرقابية، وتسهيل صفقات الاندماج، وتمرير تخفيضات ضريبية لصالح الشركات.
كثيرون يفضّلون حكومة محدودة التدخل وتحافظ على مسافة فاصلة عن القطاع الخاص. لكن مع ترامب، لم يعد ذلك خياراً متاحاً. لذا يسعى العديد منهم إلى العمل عن كثب مع الرئيس ودائرته الضيقة لتحقيق أهم أهدافهم.
فعلى سبيل المثال، وافقت شركة فايزر على خفض أسعار بعض الأدوية للمستهلكين الأميركيين، وبيع بعضها عبر بوابة فيدرالية تحمل اسم ترامب آر إكس، والاستثمار في التصنيع داخل الولايات المتحدة، مقابل الحصول على إعفاءات من الرسوم الجمركية. وخلال فعالية في البيت الأبيض، شكر الرئيس التنفيذي لفايزر ألبرت بورلا ترامب، وتعهد بأن الاتفاق «التاريخي» سيلبّي مطالب الرئيس لخفض كلفة الأدوية.
ويظهر التلاقي بين الدولة والرأسماليين بأوضح صوره في سباق الذكاء الاصطناعي. فوادي السيليكون وترامب يتفقون على أن هذا السباق حاسم للحفاظ على النمو الاقتصادي الأميركي والتفوّق الاستراتيجي على الصين.
ومنذ البداية، قدّمت وادي السيليكون دعمها لترامب، وحضر كبار التنفيذيين حفل تنصيبه. وفي اليوم التالي، أعلن الرئيس في البيت الأبيض عن مشروع بنية تحتية للذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار، حمل اسم «ستارغيت»، تقوده شركات أوبن أيه آي وأوراكل وسوفت بنك.
في المقابل، دعم ترامب بقوة أولويات القطاع، فألغى توجيهات بايدن المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والأمن القومي والصحة العامة، ودفع باتجاه توفير المزيد من الطاقة لتلبية الطلب الهائل لمراكز البيانات. كما وقّع الأسبوع الماضي أمراً تنفيذياً لمعاقبة الولايات التي تنظّم الذكاء الاصطناعي. وحتى الآن، جرى استثناء واردات تقنية رئيسية، مثل رقائق إنفيديا وهواتف آبل، إلى حد كبير من الرسوم الجمركية.
ولا يقتصر دور الإدارة على دعم القطاع، بل تشارك فيه أيضاً. فبعد وقت قصير من مطالبة ترامب وحصوله على حصة ملكية بنسبة 10% في إنتل، استثمرت إنفيديا بدورها في الشركة، التي تُعد مورّداً ومنافساً محتملاً لها.
وكان ذلك مثالاً واحداً على صفقات «دائرية» عديدة طمست الحدود بين المنافسين والعملاء، بل وأحياناً بين القطاع الخاص والحكومة الفيدرالية نفسها.
ويذكّر هذا، إلى حد ما، بتشابك الملكيات الذي ميّز الاقتصاد الياباني سابقاً. فمن جهة، قد يُسرّع التعاون بين لاعبي الذكاء الاصطناعي الرئيسيين وتيرة الاستثمار ويحافظ على تقدّم الولايات المتحدة على الصين. ومن جهة أخرى، قد يرفع حواجز الدخول أمام المنافسين الجدد، على حساب المنافسة والابتكار. وقالت دوهـا مكّي، التي عملت في قسم مكافحة الاحتكار بوزارة العدل في إدارتي ترامب وبايدن، لصحيفة وول ستريت جورنال": «هذه الصفقات ليست استحواذات مباشرة، بل أقرب إلى شراكات واستثمارات مشتركة. لكن إذا رسمتَ خريطتها، تبدأ في الظهور ككيانات احتكارية»، مضيفةً أن «هيئات مكافحة الاحتكار ينبغي أن تطرح أسئلة حول طبيعة هذه العلاقات».
حتى الآن، تبدو المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي جيدة نسبياً، وتؤكد وزارة العدل أنها تراقب أي سلوك احتكاري. لكن على المستوى الأوسع، تبدو الإدارة أكثر اهتماماً ببناء «أبطال وطنيين» قادرين على المنافسة في الخارج، من الحفاظ على المنافسة داخل السوق الأميركية.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي فقاعة محتملة، كما يخشى كثيرون، فإن انفجارها قد يهدد رؤوس الأموال التي تموّل مراكز البيانات والنمو الاقتصادي الأميركي. ولهذا، يرى بعض قادة وادي السيليكون أن على واشنطن دعم القطاع كما دعمت المصارف سابقاً.
ولا تجسّد أي شركة نموذج «البطل الوطني» أكثر من إنفيديا، التي تهيمن على سوق وحدات المعالجة الرسومية المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها.
وقد منعت إدارتا بايدن، وفي البداية ترامب، إنفيديا من بيع العديد من رقائقها المتقدمة إلى الصين، بهدف إبطاء تقدّم شركات الذكاء الاصطناعي الصينية الكبرى مثل ديب سيك. لكن هوانغ عقد لقاءات متكررة مع ترامب ومسؤولين آخرين، وزار الكونغرس، مجادلاً بأن السماح بالبيع سيحافظ على القيادة الأميركية عبر إبقاء المطوّرين الصينيين معتمدين على «المنظومة التقنية الأميركية».
وتبنّى مستشار ترامب التقني ديفيد ساكس الرأي نفسه داخل البيت الأبيض، مشبّهاً الوضع بكيفية تفوّق هواوي على الشركات الغربية في شبكات الجيل الخامس.
وقبل ترامب، كان بايدن قد تبنّى بالفعل سياسة صناعية عبر قانون «الرقائق»، الذي ضخّ مليارات الدولارات في شكل منح لشركات مثل إنتل لبناء مصانع قادرة على إنتاج رقائق متقدمة، بما فيها تلك التي تصمّمها إنفيديا.
لكن، بخلاف بايدن، يرى ترامب أن على واشنطن استخلاص قيمة مباشرة من الشركات التي تحتاج إلى دعمها. فقد حوّلت الإدارة منح إنتل إلى حصص ملكية، ورغم تخفيف ذلك لحصص المساهمين، ارتفعت أسهم الشركة، إذ يراهن المستثمرون على أن الحكومة ستوجّه الأعمال نحو إنتل كما تفعل بكين مع أبطالها الوطنيين.
ورغم أن حجج هوانغ وساكس ربما كانت كافية بذاتها لتغيير موقف الإدارة بشأن مبيعات إنفيديا للصين، فإن اقتطاع 25% من العائدات على الأرجح ساعد في حسم القرار.
لكن المخاطر واضحة. فربحية وزارة الخزانة من أسهم إنتل أو من مبيعات الرقائق إلى الصين قد تشتت الانتباه عن اعتبارات الأمن القومي. فبعد تحويل منح «الرقائق» إلى ملكية، لم تعد إنتل مقيّدة بالشروط التي فرضتها إدارة بايدن لبناء أنواع معيّنة من القدرات التصنيعية المتقدمة داخل الولايات المتحدة.
وقالت جينا رايموندو، وزيرة التجارة في عهد بايدن، الشهر الماضي في مجلس العلاقات الخارجية: «لا تقعوا في فخ القول إننا نفعل هذا لتحقيق أرباح للحكومة. هذا ليس الهدف. الهدف هو تحقيق نتيجة تتعلق بالأمن القومي».
ومن المفترض أن تخدم رأسمالية الدولة مصلحة البلاد، لكن الإغراء كبير لدى من هم في السلطة لخلط مصالح الدولة بمصالحهم الخاصة، وعندها تتحول رأسمالية الدولة إلى «رأسمالية محسوبية». وذكرت "وول ستريت جورنال" نموذج المنافسة بين نتفلكس وبارامونت في الاستحواذ على استديوهات وارنر براذرز المالكة أيضاً لشبكة سي إن إن. وقال ترامب إن ملكية شبكة سي إن إن الإخبارية يجب أن تتغير، بغض النظر عمّن يشتري الشركة.

