غالبًا ما يُنسب الفضل في مكانة مدينة مكسيكو سيتي كواحدة من أبرز عواصم الطهي في العالم إلى قوائم التذوق الإبداعية وتعاون مشاهير الطهاة في حي روما نورتي الراقي، لكن النكهات التي تُقدم في تلك الشوارع الثرية المزدانة بالأشجار غالباً ما تبدأ رحلتها إلى الطبق عند الفجر - في سوق مترامي الأطراف وفوضوي في أحد أفقر أحياء المدينة "حي القمامة".
ففي منطقة "روما نورتي" الراقية، حيث تتجاوز أسعار الوجبات الفاخرة 2000 بيزو، يجد الطهاة المرموقون مثل أوزوالدو أوليفا من مطعم "لوريا" الحائز على نجمة ميشلان، مصدر إلهامهم ومكوناتهم في سوق "سنترال دي أباستو" الشعبي بحسب برنامج "World's Table" الذي تقدمه بي بي سي.
يُفضل أوليفا القيام برحلة شخصية إلى السوق قبل الفجر للحصول على المنتجات الطازجة، معتبراً هذه التجربة "جرعة من الأدرينالين" التي تشعل حواسه وتلهمه لإعداد أطباق فريدة من نوعها.
فالمكونات البسيطة مثل "الرجلة" و"الهويتلاكوتشي" (فطر الذرة)، التي يجدها في السوق، تتحول على يديه إلى أطباق مبتكرة تعكس عبقرية الطهي، هذا التوجه لا يقتصر على أوليفا فقط، بل يمتد إلى طهاة آخرين، وهو ما يؤكد أن علاقاتها مع بائعي السوق تمنحها أولوية الحصول على المكونات الموسمية النادرة، مما يضفي لمسة خاصة على قوائم الطعام والكوكتيلات.
يقع سوق سنترال دي أباستو في إيزتابالابا، وهو أكبر سوق جملة في العالم، بمساحة 3.27 كيلومتر مربع - أي ما يعادل تقريباً مساحة سنترال بارك في مدينة نيويورك - ويزود 80% من منتجات العاصمة.
بين الساعة الرابعة والثامنة صباحاً، يبدو الامتداد العمراني أشبه بمشهد من فيلم "بليد رانر"، حيث يتدافع المشترون عبر ممرات ضيقة للمساومة على آلاف المستودعات وأكشاك المنتجات المتهالكة.
يركض " الديابلروس" (حمالو الشاحنات اليدوية) بسرعة عبر متاهة الحشود والشاحنات التي تُصدر أصواتاً، حريصين على عدم الاصطدام بزملائهم الذين يوازنون صناديق خشبية على رؤوسهم.
حي القمامة
افتُتح مركز أباستو التجاري عام 1982 ليحل محل مركز لا ميرسيد التجاري الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية في مدينة مكسيكو، يستقبل المركز يومياً نصف مليون زائر، ويتعامل مع أكثر من 30 ألف طن من المنتجات الزراعية من جميع أنحاء المكسيك، يتميز حي إيزتابالابا بطابعه المتهالك، الذي لُقب تاريخياً بـ"حي القمامة" بسبب مكبات النفايات والسجون، ويعيش اليوم 43% من سكانه، البالغ عددهم مليوني نسمة، في فقر مدقع، مما يجعله من أفقر أحياء العاصمة، إلا أن الدور المحوري الذي يلعبه المركز في تغذية مطاعم العاصمة العالمية يُغير المفاهيم السائدة.
على الرغم من أن متسوقي المنازل يزورون السوق أيضاً، إلا أن تركيز سنترال ينصب على الشراء بكميات كبيرة، مع عروض ضخمة تتناسب معها، فما بين البطيخ المكدس وأكوام الثوم والجزر وصناديق البصل ولحم البقر المشوي كل هذه الأنواع تعكس التنوع الهائل في تشكيلة السوق وتنوع المناخات المحلية في المكسيك، ويأتي البائعون من جميع أنحاء المنطقة لبيع منتجات مكسيكية فريدة.
على مدى العقد الأخير، تحول السوق من مجرد وجهة لشراء المواد الغذائية الأساسية بكميات كبيرة إلى كنز حقيقي للطهاة الباحثين عن مكونات عضوية وأصلية نادرةـ فالمزارعون مثل ألفريدو كروز كاماتشو يعرضون محاصيل متخصصة مثل الشمندر والطماطم الصغيرة التي تجذب انتباه طهاة عالميين يبحثون عن مكونات فريدة.
مشروع "يوتوبيا"
تتجاوز العلاقة بين المطاعم الفاخرة والسوق مجرد التبادل التجاري، لتتجسد في مشروع اجتماعي طموح يُطلق عليه اسم "يوتوبيا"، فمنذ عام 2019، أنشأت مدينة مكسيكو 15 مركزاً مجتمعياً في منطقة "إيزتابالابا" العمالية، بهدف دعم الفئات الأكثر فقراً، ومن بينهم العاملون في "سنترال دي أباستو".
وقد نجح هذا المشروع في توطيد الصلة بين العالمين عبر استغلال الطعام المتبقي الصالح للطهي في السوق لتحضير 160 وجبة يومياً بأسعار رمزية (11 بيزو)، تُقدم للعائلات المحتاجة في قاعات طعام "يوتوبيا". هذا التعاون يمثل حلاً مبتكرًا لمشكلة هدر الطعام، كما يضمن توفير وجبات صحية ومغذية للمجتمع.
لم يقتصر دور مشروع "يوتوبيا" على الجانب الاجتماعي فقط، بل امتد إلى الاستدامة البيئية، فقد تم تركيب أكثر من 30 ألف لوح شمسي على أسطح السوق، مما حوله إلى أكبر مزرعة للطاقة الشمسية في العالم. هذا الإنجاز يعكس التزام المدينة بحلول الطاقة المتجددة ويوطد شعور الفخر لدى المجتمع المحلي.
يشعر كل زائر للمدينة بارتباط مباشر بسوق "سنترال دي أباستو"، حتى لو لم يقم بزيارته، وكما يقول الطهاة، فإن الطعام في مدينة مكسيكو هو وجهان لعملة واحدة: الهوية المكسيكية التي تتجلى في المطاعم الفاخرة، والتي تُشكلت بفضل المكونات القادمة مباشرة من قلب السوق الشعبي، هذه الثقافة المشتركة من الإعجاب والابتكار هي ما جعلت مدينة مكسيكو واحدة من أرقى وجهات الطعام في العالم.


