من يكون ساتوشي ناكاموتو «الغامض» مخترع «بتكوين»؟

حكايته ليست مجرد قصة عن عملة رقمية، بل عن ثورة اقتصادية شاملة، وتذكير بأن الأفكار قادرة على إحداث تغييرات تهز أنظمة مالية عمرها قرون، وأن العالم الرقمي قادر على صناعة أساطير جديدة، بقدر ما يصنع ثروات هائلة، إنه ساتوشي ناكاموتو، الذي صنع واحدة من أغرب أساطير هذا العصر عبر اخترع نظام مالي فريد، صار هو نفسه أسطورة ولغزاً حير العالم، حتى إنه لم يُعرف إن كان شخصاً حقيقياً من لحم ودم، أم أنه ليس إلا شخصية خيالية تتخفى وراء هذا الاسم، وتحمل بداخلها ذلك اللغز!

ظهر اسم «الغامض» ساتوشي ناكاموتو للمرة الأولى في أكتوبر عام 2008 عبر بريد إلكتروني قدم فيه وثيقة مكونة من 9 صفحات، واصفاً نفسه بأنه مواطن ياباني في الأربعينيات من العمر. كانت تلك الوثيقة تمهيداً لميلاد عُملة بعد شهرين فقط من ذلك التاريخ لم يعرفها العالم من قبل، هي «بتكوين» التي قلبت النظام المالي التقليدي رأساً على عقب، بل ربما كانت بديلاً عنه، وجاءت في أوج الأزمة الاقتصادية التي ضربت الكرة الأرضية آنذاك.

ثروة مجمدة

«بتكوين»، تلك العملة التي لا تستطيع الإمساك بها بين يديك، التي لا يعرف العالم كنه مخترعها، ظلت مجرد «وهم» حتى قام مبرمج أمريكي بأول عملية شراء فعلي بها؛ حيث دفع عشرة آلاف «بتكوين» مقابل بيتزا في يوم 22 مايو من عام 2010، ذلك اليوم الذي كتب شهادة ميلاد «بتكوين». لم يكن ذلك المشتري يتخيل أن هذه العملة سوف تتضاعف قيمتها في الأسواق العالمية، وأنه –بحسب آراء الخبراء- لو احتفظ بها إلى الآن لتجاوزت قيمتها 1.1 مليار دولار.

أما ناكاموتو نفسه فيملك نحو 1200000 «بتكوين»، وبحساب سعر صرفها اليوم يقول الخبراء إن قيمتها تتجاوز 133 مليار دولار، لكنها في حقيقتها «ثروة مجمدة»؛ حيث اختفى صاحبها نفسه منذ عام 2011 تاركاً وراءه ألغازاً أخرى، حيث لم يُعرف إن كان قد مات أم فقد كلمة المرور إلى حسابه، أم أنه ينتظر الوقت المناسب ليخرج إلى العالم بفكرة جديدة تضاعف هذه الثروة مئات الأضعاف، ربما يقلب النظام المالي العالمي من جديد، بعد أن امتلأت الأسواق الافتراضية بمئات العملات الرقمية الأخرى، إن كان ناكاموتو نفسه شخصاً حقيقياً!

وما زال اللغز قائماً

وعلى الرغم من أن هوية ناكاموتو لا تزال محل شك، وهل هو ذكر أم أنثى، أو هو مجموعة من الأشخاص وليس شخصاً واحداً؛ فإن الباحثين يرجحون أنه واحد من خبراء التشفير وعلوم الكمبيوتر. هذا الغموض والميراث المشاع -إن جاز التعبير– جعل خبير التقنية الأسترالي كريغ رايت يزعم في مقابلة صحافية أنه مؤسس «بتكوين»، لكنه فشل في تقديم أي دليل على صدق كلامه، ومن الطريف أنه في اليوم الأول من أبريل عام 2017 أعلن البعض عبر تغريدة على منصة «إكس» أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحالي دونالد ترامب، في فترة ولايته الأولى آنذاك، هو نفسه ساتوشي ناكاموتو، غير أن المتابعين اعتبروا هذا التصريح «كذبة أبريل» المعتادة في كل عام.

هناك مشتبه به آخر، يدعى هال فيني ذكره آندي غرينبيرغ الصحافي في مجلة «فوربس» الذي طلب من شركة الاستشارات التحليلية للكتابة «غوولا وشركاه» مقارنة عينة من كتابات فيني مع كتابات دوريان ناكاموتو، ووجدوا أنها متقاربة بشكل كبير، فافترض الصحافي أن فيني ربما كان يكتب نيابة عن ناكاموتو، أو أنه استخدم هويته للتغطية على عمليات استغلال عبر الإنترنت مستخدماً عملات «بتكوين».

أما لين ساسمان، فهو شخصية أخرى غامضة ذُكرت في مناقشات متعلقة بالتشفير والعملات الرقمية، وخصوصاً «بتكوين»، ويرجح أن له دوراً في مراحل معينة من تطوير تكنولوجيا التشفير المستخدمة في تلك العملة.

تفسير خاطئ

وفي السياق نفسه جاء اسم دوريان ناكاموتو في تحقيق صحافي نُشر في شهر مارس 2014 في مجلة «نيوزويك»، قالت فيه الصحافية ماكغراث غودمان إن ساتوشي ناكاموتو هو رجل أمريكي ياباني يعيش في كاليفورنيا يدعى دوريان برنتيس، وإن اسم ميلاده ساتوشي ناكاموتو، وقد تدرب كفيزيائي في جامعة «كال بولي» في بومونا، وعمل مهندس أنظمة في مشاريع دفاعية سرية ومهندس كمبيوتر لشركات التكنولوجيا وخدمات المعلومات المالية. وذكرت غودمان أنها سألته عن بتكوين فأكد أنه مؤسسها، لكنه أضاف: «لم أعد متورطاً في ذلك ولا أستطيع النقاش حوله، لقد سلمته لأشخاص آخرين، وهم المسؤولون عنه الآن ولم يعد لدي أي اتصال بهم»، وبعد نشر المقالة تجمع الصحافيون بالقرب من منزله وطاردوه عندما كان يقود سيارته، لكنه نفى مرة أخرى أي صلة له بعملة «بتكوين»، وقال إنه لم يسمع بها من قبل، وأنه أساء تفسير سؤال الصحافية وظن أنها تسأله عن أعماله السابقة مع المقاولين العسكريين التي كان كثير منها سرياً.

خدعة متقنة

وفي ديسمبر 2013 قال مدون يُدعى سكاي غراي إن رجلاً اسمه نيك زابو له علاقة بعملة «بتكوين»، حيث إنه متحمس للعملات اللامركزية، وقد نشر ورقة بحثية عن «مشروع بيتغولد» عن عملة رقمية مشفرة، لكن تبين أنه ليس هناك دليل على أن ناكاموتو هو زابو، وقد نفى زابو نفسه هذا الأمر في رسالة عبر البريد الإلكتروني قال فيها متهكماً: «شكراً لكم على إخباري بذلك»، لكن ناثانيال بوبر الصحافي في صحيفة «نيويورك تايمز» رد عليه قائلاً: الدليل الأكثر إقناعاً على مخترع «بتكوين» يشير إلى رجل أمريكي منعزل من أصل مجري اسمه نيك زابو، ليزيد الأمر تعقيداً وغموضاً، لا سيما بعد أن كتبت مجلة «وايرد» سنة 2015، أن الأكاديمي الأسترالي كريغ ستيفن رايت ادعى أنه مخترع عملة «بتكوين»، فقام رايت بحذف حسابه في موقع «تويتر» ولم يرد على الاستفسارات الصحافية، لينشر موقع «غزمودو» قصة تحتوي على أدلة قيل إن أحد المتسللين حصل عليها من بريد رايت الإلكتروني، وجاء في القصة أن ساتوشي ناكاموتو مجرد اسم مستعار مشترك بين كريغ ستيفن رايت ومحلل الطب الشرعي ديفيد كليمان الذي توفي عام 2013، وأن رايت ذكر أنه مخترع «بتكوين»، وقدم أدلة لإثبات أقواله، ولقي دعماً من قبل مسؤولين على علاقة بإدارة العملة الإلكترونية المشفرة، منهم جون ماتونيس، المدير السابق لمؤسسة بتكوين، ومطور البتكوين غافن أندريسن، وعالم التشفير إيان غريغ، غير أن خبراء شككوا في ادعاء رايت، وطالبوه بتقديم مزيد من الأدلة لإثبات ذلك، وظل عدد من مروجي بتكوين البارزين غير مقتنعين، وقدم رايت في مدونته إثباتاً مشفراً بأن نظام «بتكوين» من ابتكاره، وأثارت تقارير لاحقة احتمال أن تكون الأدلة المذكورة خدعة متقنة، واعترفت مجلة «وايرد» لاحقاً بأنها تشك في أن رايت هو ناكاموتو. وفي عام 2019 سجل رايت ورقة «بتكوين» البيضاء ورمز «بتكوين 0.1» في مكتب حقوق الطبع والنشر الأمريكي، وزعم أنه اعتراف وكالة حكومية له باسم ساتوشي ناكاموتو، لكن المكتب أصدر بياناً صحافياً ينفي ذلك.

تكهنات متعددة

وفي أكتوبر 2011 كتب الصحافي الاستقصائي، آدم بيننبرغ، أن ناكاموتو قد يكون واحداً من ثلاثة أشخاص، وهم نيل كينغ، وفلاديمير أوكسمان، وتشارلز بري، حيث حصل ثلاثتهم على براءات اختراع في 2008 احتوت على جملة استخدمت في ورقة «بتكوين» البيضاء، وأن موقع «bitcoin.org» تم تسجيله بعد ثلاثة أيام من حصولهم على براءة الاختراع، ولكن الثلاثة أنفسهم نفوا هذا الأمر.

وفي مايو 2013 نُشر أن ناكاموتو هو عالم الرياضيات الياباني شينيتشي موتشيزوكي، الذي نفى هذه التكهنات. وفي عام 2020 زعمت قناة «بارلي سوسيابل» على يوتيوب أن آدم باك مخترع «هاشكاش» هو ناكاموتو، لكنه ظهر في وقت لاحق ونفى ذلك. كما نشر ساهيل جوبتا، الموظف السابق في «سبيس إكس» مدونة مفادها أن ناكاموتو قد يكون إيلون ماسك، ليرد ماسك بالنفي في تغريدة في نوفمبر 2017. ومن الطريف ما قاله الصحافي إيفان راتليف أن تاجر المخدرات باول لي رو قد يكون هو ناكاموتو!