حرب أسعار شركات التوصيل من المستفيد.. ومن يدفع الثمن

تشهد سوق التوصيل؛ سواء توصيل الطعام أو السلع، واحدة من أعنف حروب الأسعار خلال السنوات الأخيرة، نتيجة زيادة أعداد المنصات، ورغبة الشركات في الاستحواذ على أكبر حصة ممكنة.. والنتيجة، خصومات حادة، عروض توصيل شبه مجانية، وسباق على تخفيض العمولات.

وتشتعل المنافسة في سوق التوصيل حتى تحولت الطرق إلى حلبة سباق يومي بين عشرات الشركات التي تتنافس على كسب ثقة المستهلك وتقديم أسرع خدمة بأفضل سعر. لكن اللافت للنظر في تلك المنافسة هو المستهلك الذي بات الرابح الأكبر منها، والذي وضعته الشركات هدفاً تسعى للفوز به بكل السبل المتاحة حتى تستحوذ على حصة أكبر من السوق.

ومع كل شركة جديدة تدخل السوق يرتفع مستوى التحدي بشكل أكبر وتشتد المنافسة بينها إلى آخر مدى، حتى أصبح السباق نحو الابتكار والجودة والسرعة هو العامل الحاسم الذي يبقي الشركة أكبر فترة من الوقت في السوق، فيما تتوارى شيئاً شيئاً الشركات التي لا تستطيع مجاراة هذا التنافس الشرس، حتى تصاب ميزانياتها ونشاطاتها بالإرهاق المادي.

وفي هذا الصدد، يرى خبراء، أن زيادة عدد المنافسين عادة ما تؤدي إلى «حروب أسعار» لا تهدأ، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تراجع حصص الشركات في السوق، ما يخلق عمليات اندماج، أو بمعنى أدق، استحواذ الشركة الأكبر على الأصغر للحصول على حصة سوقية أكبر. وفي بعض الأحيان قد تؤدي هذه المنافسة غير المتكافئة إلى خروج شركات من السوق بشكل كامل، لأنه مع ارتفاع عدد اللاعبين في السوق، تجد كل شركة نفسها مضطرة لتقديم أسعار أقل للحفاظ على عملائها الحاليين واستقطاب عملاء جدد، الأمر الذي ينعكس سلباً على الإيرادات وهوامش الربح.

وفي مثل هذه الظروف، تستغل الشركات الكبرى الفرصة وتقوم بالاستحواذ على اللاعبين الأصغر الآخرين الذين يضطرون إلى الخروج من المنافسة، على غرار شركة «شقردي» من السوق السعودية، والذي يعد درساً في مخاطر حرق الأسعار، وهو ما تناقشه «البيان» مع خبراء بارزين في قطاع التوصيل للإجابة عن بعض التساؤلات الرئيسية ومعرفة توقعاتهم بمستقبل السوق، وهل ستؤدي هذه المنافسة إلى خروج شركات؟ وهل ستنخفض أسعار التوصيل في ظل ارتفاع عدد الشركات؟ وما شكل المنافسة الحالية وكيف تتطور، وإلى أين تتجه؟

كشف تقرير سوق خدمات توصيل الطعام عبر الإنترنت، الصادر عن «جراند فيو ريسيرش»، أن قطاع توصيل الطعام والبقالة يعيش طفرة عالمية غير مسبوقة مدفوعة بتغير أنماط الحياة واعتماد الناس المتزايد على التطبيقات. وفي الإمارات تحديداً، تجاوز حجم سوق توصيل الطعام في عام 2024 حاجز 2.5 مليار دولار (9.2 مليارات درهم) مع توقعات ببلوغه أكثر من 4 مليارات دولار (14.7 مليار درهم) بحلول 2030، وهي أرقام تعكس سخونة هذا السباق، حيث تستحوذ الدولة على أكثر من نصف حصة السوق خليجياً.

ومن المتوقع أن يتوسع قطاع توصيل الوجبات عبر الإنترنت في الإمارات بحلول 2033 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 10.2 %، مدفوعاً بطلبات المستهلكين على الراحة والسرعة وفوائد الولاء، وفقاً لبيانات شركة «سيرف مينا» العالمية، التي أكدت أيضاً أن سوق توصيل الطعام عبر الهاتف المحمول سيظل محورياً في استراتيجية خدمات الطعام بالإمارات، مع استمرار تطورهما الرقمي وزيادة حجم الطلبات.

كما تشهد السوق زخماً إضافياً بفضل النمو السكاني، ما يعزز الطلب على خدمات التوصيل ويشعل المنافسة أكثر فأكثر. وفي دبي وحدها تنطلق يومياً أكثر من 65 ألف دراجة توصيل، بحسب هيئة الطرق والمواصلات في أكتوبر 2025، في مشهد يعكس حجم النشاط والتسابق المحموم بين الشركات.

أما على المستوى العالمي، وبحسب «كوجنيتيف ماركت ريسيرش»، فمن المتوقع أن يتجاوز حجم السوق 323 مليار دولار العام الجاري، في حين تشكل منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً دول الخليج، واحداً من أسرع الأسواق نمواً، إذ وصل حجم سوق توصيل الطعام فيها إلى 3.93 مليارات دولار، مع توقعات ببلوغه 11.18 مليار دولار بحلول 2030.

وأعلنت مؤسسة دبي لحماية المستهلك والتجارة العادلة، إحدى مؤسسات دائرة الاقتصاد والسياحة بدبي، عن إطلاق مجموعة عمل متخصصة بقطاع توصيل الطعام عبر الإنترنت تضم الجهات المعنية من القطاعين العام والخاص. كما أصدرت المؤسسة في هذا الإطار إرشادات جديدة خاصة بالقطاع تكمل عمل المجموعة، تم إعدادها بالتشاور مع المعنيين بهدف تعزيز التنافسية، والارتقاء بمعايير الأعمال، وجذب المزيد من الاستثمارات والأعمال.

وضمن أبرز الضوابط الجديدة، الحد من الممارسات السلبية الضاربة بمبادئ المنافسة والتي تتضمن اتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة الاحتكار والتسعير الجائر، وسهولة والوصول إلى البيانات ومشاركتها بشفافية، وتبني المنصة لمبادئ التعامل بحيادية.

«كيتا» تشعل المنافسة

هذا، وقد اقتحمت شركة «كيتا» التابعة لمجموعة «ميتوان» الصينية، السوق الإماراتية، لتشعل شرارة حرب أسعار قوية، بعدما أطلقت عروضاً ترويجية تصل إلى 50 %، في خطوة تستهدف انتزاع حصة سوقية سريعة من المنافسين خلال فترة قصيرة، ما فتح الباب أمام مرحلة شديدة التنافسية بين شركات التوصيل خلال الأشهر المقبلة.

وبدأت الشركة نشاطها محلياً في سبتمبر الماضي، ومنذ ذلك الحين وهي تسجل حضوراً متسارعاً، ووقعت الشركة شراكة استراتيجية مع «تاكسي دبي»، بهدف تعزيز خدمات توصيل الميل الأخير في جميع أنحاء الإمارة، وابتكار حلول لوجستية مستقبلية، حيث تتولى «تاكسي دبي» مسؤولية تشغيل أسطول أولي يضم 150 دراجة نارية للتوصيل، مع خطط لزيادة العدد إلى 500 دراجة بحلول نهاية العام، ومن المتوقع أن تحقق هذه المبادرة إيرادات تتجاوز 10 ملايين درهم خلال الاثني عشر شهراً الأولى.

طلبات

ويقول تسيمونيدا سوبوش، نائب الرئيس والمدير العام لدى «طلبات الإمارات»: «إن المنافسة تسرع الابتكار، وتزيد جودة معايير الخدمة، وتعود بالفائدة في النهاية على العملاء وأصحاب المتاجر على حد سواء، وندير أسطولاً يضم أكثر من 160 ألف سائق يعد الأكبر في المنطقة، ونتعاون مع أكثر من 80 ألف مطعم وتاجر نشط، وقد كان إدراجنا في سوق دبي المالي في نهاية عام 2024 محطة فارقة، حيث كان واحداً من أنجح الطروحات العامة الأولية في مجال التكنولوجيا في المنطقة وأكبر إدراج تكنولوجي عالمي في ذلك العام». وأضاف: كانت الإمارات دوماً في قلب قصة نمو «طلبات»، لأنها تقدم بيئة لا مثيل لها للابتكار وريادة الأعمال والتحول الرقمي، ومع وجود مقرنا الرئيسي في الإمارات، نستفيد من منظومة وبيئة من الطراز العالمي تدعم الشركات الطموحة، وتشجع على التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتستثمر باستمرار في مستقبل الاقتصاد الرقمي، مؤكداً أن الإمارات تركز على بناء اقتصاد ذكي ومستدام، الأمر الذي يجعلها قاعدة مثالية للنمو والابتكار. وارتفع صافي دخل شركة طلبات خلال الشهور التسعة الأولى من العام الجاري بنسبة 64 % ليصل إلى 341 مليون دولار (1.25 مليار درهم) مقارنة بصافي دخل قدره 208 ملايين دولار (763.36 مليون درهم) في الفترة المقابلة من عام 2024.

وارتفع صافي الدخل على أساس معدل خلال الفترة -بعد استبعاد العناصر غير التشغيلية لتحقيق مقارنة أكثر دقة- بنسبة 21 % ليصل إلى 328 مليون دولار (1.2 مليار درهم).

ووصلت قيمة البضائع المبيعة في أول تسعة شهور من عام 2025 إلى 6.94 مليارات دولار (25.48 مليار درهم) بنمو 29 % عن الفترة نفسها من العام الماضي. وارتفعت إيرادات الشركة خلال الفترة بنسبة 33 % لتصل إلى 2.837 مليار دولار (10.4 مليارات درهم).

نون

أما نيها تشودري، مدیر عام «سوبر مول» التابعة لـ«نون»، فقد قالت: «إن سوق التوصيل في الإمارات تتمتع ببيئة تنافسية عالية، وهذا بالضبط ما يجعلنا أقوى وأكثر جاهزية. وأكدت أن الإمارات تتميز ببنية تحتية عالمية المستوى، وشباب يتمتعون بوعي تكنولوجي عالٍ، وقيادة داعمة للأعمال، ما يجعلها المكان الأمثل لبناء وتوسيع الأفكار الجديدة. ومن هنا يمكننا خدمة المنطقة بأكملها، ودعم العلامات التجارية المحلية، والاستمرار في تشجيع التطور في عالم التجارة الإلكترونية بفضل بيئة الإمارات، مؤكدة بشكل عام أن بيئة الأعمال المناسبة تدفع حدود التطور في عالم التجارة الإلكترونية إلى أبعد حدودها».

وأضافت: يضم كل مستودع من مستودعات تلبية طلبات «سوبر مول» أكثر من 40.000 منتج من مختلف الفئات، مع إمكانية التوصيل خلال 60 دقيقة فقط.

ديليفرو

من جانبه، قال نك برايس، مدير عام «ديليفرو» الشرق الأوسط: «وجدنا في الإمارات البيئة المثالية لتحقيق رسالتنا المتمثلة في الارتقاء بأساليب التسوق وتناول الطعام، وقد شهدنا منذ انطلاقنا في 2015 إقبالاً واسعاً ومتزايداً من المجتمع الإماراتي الغني بتنوعه الثقافي، حيث يترافق مع قطاع مأكولات ومشروبات سريع النمو تقوده مشاريع ناشئة لرواد الأعمال الموهوبين، إلى جانب الدعم المستمر من الحكومة الإماراتية للمشاريع وحرصها على المنافسة العادلة». وتابع: تقود «ديليفرو» مبادرات وشراكات عدة لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، لتمكينها من الوصول إلى عملاء جدد، ونركز دائماً على تقديم قيمة مميزة لكل الأطراف «العملاء، الشركاء التجاريين، وسائقي التوصيل».

كريم

أما باسل النحلاوي، الرئيس التنفيذي للأعمال في «كريم»، فيقول: «يضم سوق توصيل الطعام في الإمارات عدداً من الشركات القوية ويواكب توقعات مرتفعة من العملاء. ومع ذلك، فإن السوق واسعة بما يكفي لنجاح لاعبين عدة في آن واحد، وهذا يصب في مصلحة العملاء والمنظومة الاقتصادية ككل». وأضاف: بعد أكثر من 13 عاماً في السوق الإقليمية، اكتسبنا فهماً دقيقاً للتفاصيل المحلية وتوقعات العملاء. تضم أكثر من 4500 موظف و3.5 ملايين كابتن في عشر دول عبر المنطقة، ونحن أول شركة تكنولوجية ناشئة في المنطقة تصل إلى مرتبة «یونیكورن». واليوم نقدم أكثر من 20 خدمة في دبي وحدها، كما شهد العام الجاري توسعاً كبيراً في كل من أبوظبي والعين والشارقة. ويعود اختيارنا للإمارات إلى بيئتها الداعمة للابتكار والتكنولوجيا، وبنيتها التحتية المتطورة، والتشريعات المتقدمة التي تشجع على النمو والتوسع.

وأوضح: نؤمن بأن المنافسة العادلة ضرورية لنمو القطاع على المدى الطويل، فهي التي تدفع عجلة الابتكار وتشجع على تقديم تجارب أفضل للعملاء، أما الممارسات غير العادلة، فقد تؤثر بمضي الوقت في جودة الخدمات وتحد من تنوع الخيارات، وهو أمر لا يصب في مصلحة العملاء ولا المنظومة الاقتصادية الأوسع.

المطاعم داخل اللعبة

ولا تقتصر حرارة المنافسة على شركات التوصيل وحدها؛ فالمطاعم أيضاً تجد نفسها في قلب هذه المعادلة المتغيرة. ومع تزايد اللاعبين في السوق وتنوع العروض، باتت المطاعم تعتمد بشكل غير مسبوق على منصات التوصيل لتحقيق انتشار أوسع والوصول إلى عملاء جدد. وتكشف آراء أصحاب المطاعم جانباً آخر من القصة، حيث يعبرون عن فرص وتحديات مختلفة يفرضها هذا السباق المتسارع.

ويرى إيليوت بارون، الشريك المؤسس لعلامة «كوكي كونسبيرسي»، أن ازدياد عدد منصات التوصيل في الإمارات يسهم في تحسين جودة الخدمة وسرعة التوصيل وتجربة العملاء بشكل عام، وقد أصبحت هذه المنصات عنصراً أساسياً في عمليات الاكتشاف والطلب، خصوصاً في سوق سريع الإيقاع مثل الإمارات.

وأضاف: مع ذلك، فإن المشهد التنافسي الحالي يفرض تحديات من منظور مشغلي قطاع المأكولات والمشروبات، خصوصاً بالنسبة للعلامات الصغيرة والناشئة. فمع ارتفاع عمولات المنصات إلى

30 %، يصبح من الصعب جداً على المطاعم الحفاظ على هامش ربح مستدام من دون زيادة الأسعار على العملاء، أما بالنسبة لعدد كبير من العلامات، فقد أصبحت تكلفة اكتساب العملاء عبر منصات التوصيل غير قابلة للاستمرار ما لم تكن أعداد الطلبات مرتفعة جداً. وأوضح: تختلف رسوم التوصيل حسب المسافة وتوقيت الطلب، لكنها تراوح عادة بين 8 و18 درهماً في معظم مناطق التوصيل، كما تختلف هيكليات العمولات من منصة إلى أخرى، إلا أنها غالباً ما تراوح بين 25 % و30 % من قيمة الطلب بالنسبة للعلامات الصغيرة. وتفرض بعض المنصات أيضاً رسوم خدمات إضافية أو رسوم تسويق أو غرامات على التأخر في قبول الطلبات؛ ما يزيد العبء على المطاعم. ويضيف: على الرغم من الدور الحيوي لهذه المنصات في تسهيل وصول المستهلكين إلى علاماتهم المفضلة، فإن العبء المالي الواقع على البائعين قد يحد من الابتكار، ويقلص الهوامش، ويجعل الاستمرار على المدى الطويل أصعب بالنسبة للعلامات الصغيرة.

أما آتير دهدلة، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي للعمليات في «ميلز أون مي»، فيقول: «على عكس منصات عدة تعمل وسيطاً للتوصيل فقط، فإننا ننتج وجباتنا ونوصلها بأنفسنا، وهذا مهم، لأن العملاء الذين يطلبون من المنصات الخارجية ولاؤهم غالباً ما يكون موجهاً نحو الخصومات والعروض أكثر من ولائهم للعلامة التجارية نفسها». وأضاف: أحد التحديات التي نواجهها هو الحملات الترويجية التي تطلقها هذه المنصات لجذب الانتباه. ورغم أن هذه الاستراتيجية تساعدها على تعزيز حضورها، فإنها تضع ضغطاً على العلامات التجارية مثل علامتنا لزيادة الإنفاق التسويقي للبقاء في المنافسة. ورغم أن التأثير ليس كبيراً فإنه ينعكس على الأرقام، ويدفعنا إلى أن نكون أكثر استراتيجية في توزيع الميزانيات.

من جانبه، يرى خالد عودة، المدير التنفيذي في سلسة مطاعم «بروكلي»، أن وجود أكثر من شركة توصيل يعد أمراً إيجابياً للغاية، إذ يمنع الاحتكار ويرفع مستوى المنافسة، ما ينعكس مباشرة على جودة الخدمات وتنوع الخيارات وتحسين الأسعار لكل من المطاعم والمستهلكين، غير أن شركات التوصيل عادة ما تفرض عمولات تراوح بين 18 % و35 % اعتماداً على شهرة المطعم وحجمه، إلى جانب رسوم إضافية 2 % عند الدفع بالبطاقة الائتمانية و2 % على الدفع النقدي، وذلك فوق نسبة التوصيل الأساسية، ولهذا تفضل معظم المطاعم أن يقوم العملاء بالطلب مباشرة عبر الموقع الإلكتروني الخاص بالمطعم لتجنب التكاليف الإضافية وتقديم أسعار أفضل وخدمة أكثر كفاءة. وعن لجوء بعض شركات التوصيل إلى الحملات التسويقية المثيرة التي تعلن عن تخفيضات كبيرة لجذب العملاء، يقول خالد عودة: «معظم تلك العروض في الواقع تكون أقل بكثير مما يروج له، ما يسبب التباساً لدى المستهلك ويضع المطاعم في موقف محرج أمام العملاء الذين يعتقدون أنهم يحصلون على خصومات أكبر».

حروب أسعار

في المقابل، أكد فيجاي فاليشا، الرئيس التنفيذي للاستثمار في «سنشري فاينانشال»، أن زيادة عدد المنافسين عادة ما تؤدي إلى حروب أسعار، وتراجع حصص الشركات، وعمليات اندماج، وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى خروج شركات من السوق بشكل كامل؛ فمع ارتفاع عدد اللاعبين في السوق، تجد كل شركة نفسها مضطرة إلى تقديم أسعار أقل للحفاظ على عملائها الحاليين واستقطاب عملاء جدد، الأمر الذي ينعكس سلباً على الإيرادات وهوامش الربح. وفي مثل هذه الظروف، قد تتجه الشركات الكبرى إلى الاستحواذ على لاعبين آخرين، بينما تضطر الشركات الأضعف مالياً إلى الخروج من المنافسة.

وأشار فاليشا إلى أن سوق التوصيل في الإمارات تضم خمسة لاعبين رئيسيين هي: «طلبات» و«نون» و«كيتا» و«ديليفرو» و«كريم»، وأي دخول جديد للاعب أو اثنين سيؤثر بشكل واضح في حصص الشركات القائمة، خصوصاً في ظل بقاء حجم الطلب الكلي مستقراً نسبياً. وأوضح كذلك أن المستهلكين اليوم يتمتعون بقدر أكبر من الخيارات مقارنة بالمرحلة التي كانت تهيمن فيها شركات قليلة على السوق، وهو ما يدفع الشركات إلى اعتماد أسعار أكثر تنافسية، ويظهر ذلك في صورة تخفيضات أكبر، ورسوم توصيل أقل، أو تعزيز برامج الولاء للحفاظ على المستخدمين.

وفي سوق ترتفع فيها معدلات التجزئة، قد تجد بعض الشركات نفسها مضطرة إلى خفض الرسوم على المستهلكين لتجنب فقدان حصتها لمصلحة منافسين جدد أو أكثر جرأة. ومع انخفاض الإيراد لكل طلب وتراجع حجم الطلبات، يصبح النمو أبطأ، في حين تبقى التكاليف الأساسية مثل البنية التحتية، واللوجستيات، ومدفوعات السائقين مرتفعة؛ ما يزيد الضغط على الهوامش والربحية.

وأضاف فاليشا: إن المستهلك سيستفيد على المدى القصير من أسعار أكثر توفيراً نتيجة محاولات الشركات الحفاظ على قاعدة مستخدميها. أما على المدى المتوسط، فمن المتوقع أن تشهد السوق موجة إندماجات أو شراكات لتعزيز الكفاءة التشغيلية. وأشار إلى أن السياسات الجديدة المرتقب تطبيقها في عام 2026 ستحد من العروض العدائية غير المستدامة؛ ما قد يسهم في تخفيف الضغط السعري داخل السوق.

تحديات عربية

وحول أبرز التحديات التي تواجه شركات التوصيل في أسواق الخليج والسعودية ومصر، بل وعالمياً، خصوصاً فيما يتعلق بتكاليف التشغيل والمنافسة بين الشركات وحرق الأسعار، قال فيجاي فاليشا: تتعامل شركات التوصيل في دول الخليج والسعودية ومصر مع مزيج من ضغوط التكاليف، والمنافسة السعرية، والعقبات التشغيلية. ونظراً لكون قطاع التوصيل في مرحلة ناشئة، يميل المستثمرون المغامرون إلى تحمل الخسائر بهدف اكتساب حصة سوقية، ما يؤدي إلى دخول عدد كبير من المنافسين.

وأضاف: مع دخول لاعبين جدد إلى السوق، يتنافسون من خلال تقديم رسوم أقل، واشتراكات مجانية، وخصومات وعروض ترويجية تضغط على هوامش الربحية. ويسعى الداخلون الجدد إلى اكتساب الحصة السوقية عبر تبني استراتيجيات خفض الأسعار لتسريع اكتساب العملاء. وتنجح هذه الاستراتيجية بسبب انخفاض تكاليف التحول بين المنصات وضعف الولاء للعلامة التجارية، الأمر الذي يجعل المستخدمين ينتقلون بسرعة إلى خيارات أقل تكلفة. إلا أن الإمارات والسعودية تتجهان نحو تطبيق تشريعات للحد من التسعير الافتراسي. وتابع: كما تواجه الشركات ضغوطاً سعرية من العملاء ومن داخل الشركات نفسها، ما يؤثر على الربحية. فعلى سبيل المثال، مع ارتفاع تكاليف التأمين والفيزا، تستمر التكاليف الثابتة للشركات في الارتفاع. وفي الوقت نفسه، يقدم اللاعبون الجدد أجوراً أعلى لعاملي التوصيل، ما يزيد تكاليف الاحتفاظ بالموظفين لدى الشركات القائمة. كما يضيف ارتفاع معدلات دوران العمالة في القطاع مزيداً من الضغط. ونتيجة لذلك، تعمل الشركات بهوامش ربحية ضئيلة بسبب شدة المنافسة.

وقال: إنه عند الانتقال إلى الولايات المتحدة، فإن عدد اللاعبين أقل مقارنة بالأسواق الناشئة، وذلك بسبب مرحلة من الاستحواذات الاستراتيجية التي تساعد الشركات على تحديد مواقعها السوقية. ومن المتوقع أن تشهد دول مجلس التعاون الخليجي مرحلة مماثلة بمرور الوقت. وتختلف التحديات اللوجستية والتشغيلية حسب المنطقة. ففي مصر، يبطئ الاعتماد الكبير على الدفع عند الاستلام العمليات. وفي بعض المناطق، تؤدي البنية التحتية قيد التطوير وعدم انتظام العناوين إلى ضعف الكفاءة في تحديد المسارات وارتفاع التكاليف.

وأوضح: على الصعيد العالمي، بدأت التطبيقات الصينية باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لربط السائقين بالمسارات المثلى. كما استخدمت أتمتة متقدمة، مثل الروبوتات والطائرات المسيّرة، لتحقيق توصيل أكثر كفاءة في مدن مثل شنغهاي وشينزين. وفي الولايات المتحدة، بدأت الشركات بالشراكة مع شركات الطائرات المسيّرة لتقديم خدمات التوصيل في مناطق محددة. ومع بدء السوق في التركز، يتوقع زيادة استخدام الأتمتة والذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة في منطقة الخليج.

موجة نمو سريعة

من جانبه، قال إسلام عبد الكريم، المدير الإقليمي لشركة «يانغو» في الشرق الأوسط، إن قطاع التوصيل للميل الأخير في الإمارات يشهد واحدة من أسرع موجات النمو في المنطقة، مدفوعاً بازدهار التجارة الإلكترونية، واتساع المراكز الحضرية، وارتفاع توقعات المستهلكين من حيث السرعة والدقة.

ورأى أن المشهد التنافسي مرشح للارتفاع في حدته خلال السنوات المقبلة مع دخول المزيد من الشركات، مؤكداً أن هذا التطور يعد مؤشراً صحياً يعزز جودة القطاع؛ إذ يدفع جميع اللاعبين إلى تحسين معايير الخدمة وتطوير قدراتهم التشغيلية والتقنية، فعلى الرغم من توسع قاعدة الشركات، فإن الاستمرارية في هذه السوق لن تكون حكراً على من ينافسون في الأسعار فقط، بل على الشركات القادرة على تقديم موثوقية تشغيلية واسعة النطاق. مضيفاً أن بعض الداخلين الجدد سيعتمدون على اكتساب الزخم عبر تخفيض رسوم التوصيل أو التركيز على حجم العمليات، إلا أن مثل هذه الممارسات غالباً ما تؤدي إلى موجات تنافس قصيرة المدى لا تترجم إلى تميز مستدام.

وحول مستقبل المنافسة، يرى عبد الكريم أن الكفة ستميل نحو الشركات التي تتعامل مع الميل الأخير بوصفه خدمة قائمة على التكنولوجيا وليست مجرد سلعة، حيث تصبح الدقة والشفافية والموثوقية في التنفيذ أهم عناصر النجاح.

وعن تأثير ارتفاع عدد الشركات في أسعار التوصيل، أوضح عبد الكريم أن قطاع الميل الأخير في الإمارات يتجه نحو تقسيم أوضح لطبقات التسعير، وأن السوق لم تعد تعتمد على نقطة سعر واحدة، بل أصبح المستهلك يبحث عن خيارات متعددة تتفاوت حسب السرعة والجودة ودرجة الموثوقية المطلوبة.

وحذر عبد الكريم من أن بعض المشغلين قد يلجأون إلى تخفيض الأسعار بشكل أكبر، إلا أن هذا النهج سيكون صعب الاستدامة في ظل توقعات العملاء المتزايدة للتتبع اللحظي ونوافذ التوصيل الدقيقة ونسب النجاح العالية من المحاولة الأولى، مضيفاً: إن هذه المتطلبات تفرض ضغطاً تصاعدياً على الأسعار على الشركات التي تسعى إلى الحفاظ على جودة عالية وشفافية واضحة.

واختتم بالقول: إن مستقبل الأسعار يعتمد بدرجة أكبر على رفع الكفاءة التشغيلية وليس على خفض التكلفة الظاهري. فالتوجيه الذكي، والدمج الآلي للطلبات، والاعتماد على شبكات مندوبين واسعة، كلها عوامل تسهم في تحسين التكلفة مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الموثوقية. ومع زيادة توجه الشركات نحو شركاء لوجستيين متكاملين، ستتجه السوق بطبيعتها نحو مقدمي الخدمات الذين يستطيعون توفير تسعير عادل وثابت، مدعوم بأداء تشغيلي موثوق به.

يحدث في الخليج

ووصل حجم سوق توصيل الطعام في دول الخليج إلى 3.93 مليارات دولار، مع توقعات ببلوغه 11.18 مليار دولار بحلول عام 2030. وفي السعودية أعلنت شركة «شقردي» عن إيقاف نشاطها في مفاجأة من العيار الثقيل لقطاع التوصيل، خصوصاً أنها كانت تعد من أبرز التطبيقات المحلية التي حققت انتشاراً واسعاً خلال فترة قصيرة. وقد أوضحت الشركة أن قرار الإغلاق جاء نتيجة تراكم مجموعة من التحديات التي أصبحت تعيق قدرتها على الاستمرار، وفي مقدمتها حدة المنافسة المتزايدة في القطاع الذي شهد دخول عدد كبير من الشركات المحلية والدولية التي اعتمدت استراتيجيات تسعير منخفضة بشكل كبير من أجل جذب العملاء؛ ما وضع ضغوطاً تشغيلية ومالية على الشركات الأصغر حجماً.

وقد كانت سياسة «حرق الأسعار» أحد أهم العوامل المباشرة التي أدت إلى تقليص هوامش الربح لدى «شقردي»؛ الأمر الذي جعل الوصول إلى نموذج أعمال مستدام أمراً بالغ الصعوبة. ومع تصاعد هذه الضغوط، بدأت الشركة تواجه تحديات تتجاوز القدرة على التوسع أو التكيف مع السوق، خصوصاً مع الحاجة إلى الحفاظ على مستوى عالٍ من الجودة، وتغطية التكاليف التشغيلية المرتفعة المرتبطة بالبنية التقنية وخدمات التوصيل والانتشار الجغرافي. ورغم حجم الإنجاز الذي حققته «شقردي» منذ انطلاقتها، إذ سجلت أكثر من 7 ملايين طلب وخدمت 3 ملايين عميل في ما يزيد على 35 مدينة ومحافظة داخل المملكة، فإن هذه النجاحات لم تكن كافية لمواجهة التحديات المالية المتراكمة. ومع تراجع القدرة على تحقيق عائد مستدام، أعلنت الشركة في شهر أكتوبر الماضي قرارها النهائي بإيقاف الخدمة وإنهاء نشاط التطبيق، مؤكدة أن الخطوة جاءت بعد جهود كبيرة ومحاولات متعددة للاستمرار في ظل ظروف سوقية شديدة الصعوبة.

تحديات مصرية

ووفقاً لتقرير «كوغنيتيف ماركت ريسيرش» بلغ حجم سوق توصيل الطعام في مصر للعام الجاري نحو 621 مليون دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 1.11 مليار دولار بحلول عام 2030. ويواجه سوق توصيل الطعام في مصر تحديات بارزة تشمل ضعف البنية التحتية التكنولوجية في بعض المناطق، والاعتماد الكبير على الدفع النقدي؛ ما يحد من توسع خدمات التوصيل الرقمية. كما تعاني السوق من ارتفاع تكاليف التشغيل وتقلبات الأسعار، إضافة إلى تشتت السوق ووجود منافسة سعرية قوية تؤثر في ربحية الشركات واستدامتها.

المنافسة الشديدة بين المنصات انعكست على مصلحة المستهلكين

يرى العملاء أن تطبيقات التوصيل باتت جزءاً لا يتجزأ من نمط الحياة اليومية، حيث تقول سارة محمود، إن الاعتماد المتزايد على هذه التطبيقات، لا سيما في مدن كبرى مثل دبي، يعود إلى سهولة الطلب، وتنوع الخيارات، وسرعة التوصيل. وتضيف أن التنافس القائم بين شركات التوصيل يشكل فرصة جيدة للعملاء لاختبار مستويات مختلفة من الخدمة والمقارنة بينها، الأمر الذي يرفع من سقف التوقعات، ويدفع الشركات إلى تحسين أدائها باستمرار. من جانبه يؤكد خالد السويدي، الذي يستخدم تطبيقات التوصيل عدة مرات أسبوعياً، خصوصاً أثناء وجوده في الدوام، أن المنافسة الشديدة بين المنصات انعكست بشكل مباشر على مصلحة المستهلكين من خلال العروض والخصومات المتكررة، ومع ذلك يلفت إلى أن بعض الرسوم الإضافية قد تقلل من جاذبية الخدمة في أوقات معينة، ما يدفعه إلى المقارنة بين الطلب عبر التطبيقات، والطلب المباشر من المطاعم.

أما ريم حسن فتوضح أنها أصبحت توازن بين استخدام تطبيقات التوصيل والطلب المباشر، مشيرة إلى أن ارتفاع رسوم التوصيل والعمولات دفع شريحة من العملاء إلى إعادة النظر في عادات الشراء، وترى أن الشفافية في التسعير أصبحت عاملاً حاسماً في اتخاذ القرار، مؤكدة أن استمرار المنافسة سيجبر المنصات على تقديم قيمة حقيقية ومستدامة للعملاء، بدل الاعتماد فقط على الخصومات المؤقتة. كما يشير أحمد القاسمي، وهو عميل يعتمد على تطبيقات التوصيل في طلب الطعام والبقالة، إلى أن عامل الوقت يعد من أهم أسباب استخدامه لهذه الخدمات، خصوصاً في ظل وتيرة الحياة السريعة، ويوضح أن سرعة التوصيل وإمكانية تتبع الطلب لحظة بلحظة تعززان شعوره بالثقة إلا أنه يلفت في المقابل إلى أن بعض العروض، التي تعلنها المنصات تكون أحياناً مبالغاً فيها أو لا تعكس القيمة الفعلية عند إتمام الطلب.

السائقون تحت ضغط العروض المكثفة وسرعة التوصيل

تبرز آراء السائقين عنصراً أساسياً لفهم التأثير الحقيقي لهذا التوسع على أرض الواقع، بعيداً عن الأرقام والتقارير، وتكشف هذه الآراء عن مزيج من الفرص والتحديات، التي ترافق هذا السباق المتسارع.

يؤكد السائق محمد مختار أن الطفرة الكبيرة في الطلب على خدمات التوصيل وفرت فرص عمل واسعة، وجذبت شريحة كبيرة من العاملين، مشيراً إلى أن هذا النمو أسهم في تحسين الدخل لدى الكثير من السائقين مقارنة بسنوات سابقة، إلا أنه يلفت إلى أن كثافة الطلبات، خصوصاً خلال أوقات الذروة والمواسم، تتطلب تنظيماً أدق من المنصات، لضمان سلامة السائقين وجودة الخدمة في آن.

يرى السائق برنش كومار أن مرونة العمل تعد من أبرز عوامل الجذب في هذا القطاع، حيث تتيح للسائقين العمل، وفق جداول زمنية تناسب ظروفهم الشخصية، لكنه يشير إلى أن العروض الترويجية المكثفة والوعود بالتوصيل السريع تفرض ضغوطاً إضافية على السائقين، ما يستدعي تحقيق توازن أفضل بين سرعة التسليم، والحفاظ على بيئة عمل آمنة ومستدامة.

يوضح السائق يوسف خان أن التحول الحقيقي في سوق التوصيل لا يقتصر على زيادة عدد الطلبات أو المنصات، بل يتمثل في تغيير سلوك العملاء أنفسهم، ويوضح أن العملاء أصبحوا أكثر استعجالاً، وأقل تسامحاً مع أي تأخير، ما يضع السائق في مواجهة مباشرة مع توقعات مرتفعة لا يتحكم فيها دائماً، مثل جاهزية المطعم أو الازدحام المروري. ويضيف أن هذا التحول غير طبيعة العمل، حيث لم يعد دور السائق مقتصراً على التوصيل فقط، بل أصبح جزءاً من تجربة العميل وتقييمه للخدمة ككل، وهو ما يتطلب دعماً أكبر من المنصات، وتواصلاً أوضح مع العملاء لتوزيع المسؤوليات بشكل أكثر عدلاً.

تحديات:

ارتفاع رسوم التوصيل إلى 35 % يضغط على ميزانيات المطاعم

ويؤثر على أرباحها

«حرق الأسعار» أحد المخاطر الكبيرة.. وخروج «شقردي» من السعودية مثال على ذلك

زيادة عمولات منصات التوصيل تصعب على المطاعم الحفاظ على هامش ربح مستدام

الحملات الترويجية للشركات تجبر المطاعم على زيادة الإنفاق التسويقي للبقاء في المنافسة

ضغوط التكاليف والمنافسة السعرية والعقبات التشغيلية تعرقل أداء الشركات عربياً

توصيات:

تحسين معايير الخدمة وتطوير القدرات التشغيلية والتقنية

الدمج الآلي للطلبات والاعتماد على شبكات مندوبين واسعة

توفير تسعير عادل وثابت مدعوم بأداء تشغيلي موثوق به

التركيز على استراتيجية تشغيلية ومالية أكثر قدرة على الصمود

توسيع خدمات الدفع الإلكتروني وتحسين التجربة اللوجستية