غذت ثورة الذكاء الاصطناعي نمواً غير مسبوق في سوق الأسهم، إلى الحد الذي دفع لانقسام الخبراء حول وضع السوق الحالي، وتفرق المحللون الاقتصاديون إلى ثلاثة آراء حول ارتفاع أسعار أسهم الشركات المرتبطة بهذه التقنية.
أصحاب الرأي الأول يرون أن هذه الطفرة التقنية لها أثر تحويلي على الاقتصاد، وسيتعاظم دورها على المدى الطويل. وأن هناك أسساً اقتصادية ونتائج واقعية تدعم ارتفاع الأسعار. أما الفريق المعارض فيرى أن الحماس تسبب في فقاعة مضاربة تذكر بفقاعة «الدوت كوم»، والانهيار قادم لا محالة. أما المعتدلون فيرون الأمر لن يخرج عن كونه «تصحيحاً» سيأتي في حينه. ولا أحد يعلم متى سيحدث على وجه التحديد.
وممن يجسدون وجهة النظر الأولى، شركة «بلاك روك»، إحدى أكبر مديري الأصول على مستوى العالم. وترى أنه على عكس الهوس بالمضاربة أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن هناك اختلافات عدة أساسية تقوي موقف قادة قطاع التكنولوجيا اليوم. وهي توفر الربحية القوية، واستقرار توليد النقد، والميزانيات العمومية، السليمة في المقام الأول، لمواصلة الاستثمار والنمو.
وصحيح أنه يتم تداول مؤشر ستاندرد آند بورز لتكنولوجيا المعلومات اليوم عند نحو 30 ضعف الأرباح الآجلة وهو مستوى مرتفع بالمعايير التاريخية، إلا أنه أقل بكثير من مضاعف 55 ضعفاً في ذروة حقبة الدوت-كوم. والأهم من ذلك، أن تقييمات اليوم تعكس إيرادات حقيقية ونماذج أعمال مجربة واعتماداً متسارعاً للذكاء الاصطناعي عبر صناعات مختلفة.
كما أن هناك سمة أخرى مميزة لهذه الدورة وهي كيفية تمويلها، وهي أنه يتم تمويل معظم الاستثمارات الرأسمالية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي من خلال الأرباح المحتجزة والنقد المؤسسي بدلاً من الديون. وهذا التمويل الذاتي يجعل القطاع أكثر مرونة في مواجهة أسعار الفائدة المرتفعة وأقل عرضة لصدمات السيولة. بالتالي، تستثمر العديد من الشركات من موقع قوة، وليس من موقع مضاربة.
كما ترى بلاك روك أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد اتجاه تكنولوجي؛ بل هو تحول في البنية التحتية ذو أهمية متزايدة على مستوى الاقتصاد الكلي. فمن المتوقع أن ينمو الطلب العالمي على مراكز البيانات بين 19% و 22% سنوياً حتى عام 2030، مدفوعاً بالحاجة المتزايدة للحوسبة عالية الأداء وسعة التخزين. وحالياً تستثمر شركات تصنيع أشباه الموصلات، ومقدمو الخدمات السحابية، وشركات البنية التحتية للشبكات بكثافة لتلبية هذا الطلب.
وإجمالاً، شكل الإنفاق الرأسمالي المرتبط بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الرقائق ومراكز البيانات والبنية التحتية ذات الصلة، أكثر من نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في الربع الثاني من عام 2025، وبرز كمساهم ذي مغزى في النمو الاقتصادي. ومع تبني الشركات في جميع الصناعات للذكاء الاصطناعي لتبسيط العمليات وتعزيز الإنتاجية، ستخلق دورة الاستثمار هذه دافعاً قوياً لسلسلة قيمة التكنولوجيا الأوسع.
سلوك منضبط
كما ترى إحدى أكبر شركات الاستثمار في الأصول على مستوى العالم أن سلوك المستثمرين لا يزال منضبطاً. في أواخر التسعينيات، كانت أسواق الأسهم مدفوعة بالمضاربة والحماس الفردي. في المقابل، يبدو المستثمرون اليوم أكثر انضباطاً بكثير. فمنذ بداية العام، سجلت صناديق الأسهم المشتركة وصناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) الأميركية صافي تدفقات خارجة بنحو 45 مليار دولار، في حين اجتذبت صناديق التكنولوجيا تدفقات داخلة معتدلة بلغت 14 مليار دولار وهو أقل بكثير من الزيادة البالغة 54 مليار دولار خلال ذروة الدوت-كوم. ويشير هذا إلى أن المستثمرين يتعاملون مع القطاع بتفاؤل حذر بدلاً من حماس غير منضبط.
وفي الواقع، فإن تخصيص أموال الاستثمار في أسهم التكنولوجيا أقل بكثير من المتوقع. فقد أظهرت المحافظ النموذجية التي حللتها «بلاك روك» بنسبة 25.5% للتكنولوجيا، وهو أقل بتسع نقاط مئوية كاملة من مؤشر ستاندرد آند بورز، وأقل حتى من نسبة 27.5 % في مؤشر MSCI ACWI.
في المقابل، فإن هذه الأسباب نفسها هي التي تدفع الفريق الثاني إلى القلق.
خطر يهدد الأسواق
وقال أكثر من 50 % في استطلاع لبنك أوف أمريكا، لآراء مديري صناديق استثمارية عالمية، يديرون نحو 500 مليار دولار من الأصول، إن أسهم الذكاء الاصطناعي هي بالفعل في فقاعة.
ويرى نحو 45 % أنها أكبر خطر يهدد الأسواق والاقتصاد العالمي، بزيادة من 33 % الشهر الماضي، وأنه يطغى على التهديدات الأخرى مثل التضخم أو أزمة المستهلك الأمريكي.
وأصبح الائتمان العام والخاص أصبح على ما يبدو مصدر تمويل رئيسياً لاستثمارات الذكاء الاصطناعي، وأثار نموه السريع بعض القلق. وتعتقد نسبة 20% من مديري الصناديق العالميين في الاستطلاع أن الشركات تفرط في الاستثمار، في الوقت الذي يتزايد فيه قلق السوق بشأن استدامة طفرة الإنفاق على الذكاء الاصطناعي.
وهناك طفرة إنفاق تكنولوجي تعيد تشكيل أسواق الائتمان أيضاً، حيث أصدرت الشركات الأميركية ما قيمته أكثر من 200 مليار دولار من السندات هذا العام لتمويل مشاريعها المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وسط تحذيرات من «فيضان» من الإصدارات الإضافية. وقدر محللو بنك باركليز أن إجمالي الاستثمار المتعلق بالذكاء الاصطناعي من قبل الشركات العملاقة والشركات الأصغر يمكن أن يصل إلى ما يعادل أكثر من 10 % من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بحلول عام 2029.
في المقابل، تبرز وجهة نظر أكثر اعتدالاً لدى عدد من البنوك الاستثمارية الكبرى مثل جولدمان ساكس ويو بي إس و«جيه بي مورجان» ترى أن ما يشهده السوق ليس فقاعة مكتملة الملامح، بل دورة توسع طبيعية تقودها طفرة الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن تعبر في مرحلة ما إلى «تصحيح» تعيد التوازن إلى التقييمات.
إعادة تسعير
وبحسب هذه الرؤية، فإن تراجع الأسعار إن حدث سيكون أشبه بإعادة تسعير محسوبة، وليس انهياراً يعيد الأسواق إلى مستويات ما قبل الطفرة. ولهذا، فإن أي مرحلة تباطؤ أو تصحيح، في نظرهم، محطة ضرورية لتصفية التقييمات المبالغ فيها في الأطراف، من دون المساس بالركائز الأساسية للنمو.
وبالتالي فإن «التصحيح في أوانه» هو السيناريو الأكثر اتزاناً، وهو تراجع سيفرز الشركات القادرة على تحويل وعود الذكاء الاصطناعي إلى قيمة اقتصادية، وتلك التي استفادت مؤقتاً من موجة الحماس. والنتيجة، في نظر هذا الاتجاه، ليست نهاية القصة، بل بداية مرحلة أكثر نضجاً واستقراراً في مسار التحول التكنولوجي.
ويجادل جيم كوفيلو، رئيس أبحاث الأسهم العالمية في جولدمان ساكس، بأن المعضلة الرئيسية ليست في قدرات التكنولوجيا، بل في تكلفتها؛ فلكي يحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً اقتصادياً شاملاً، يجب أن يكون قادراً على حل المشكلات المعقدة بتكلفة أقل من البشر، وهو شرط لم يتحقق بعد في ظل التكاليف الباهظة للبنية التحتية والطاقة والشرائح. ويشير التقرير إلى فجوة هيكلية مقلقة: حيث تستعد الشركات لضخ ما يقارب تريليون دولار في النفقات الرأسمالية (CapEx) خلال السنوات المقبلة، في حين لا تزال «التطبيقات القاتلة» التي يمكنها توليد إيرادات توازي هذا الإنفاق غير واضحة المعالم حتى الآن.
عائد الاستثمار
وعلى عكس ثورة الإنترنت التي وفرت بدائل منخفضة التكلفة منذ يومها الأول، يعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا باهظة الثمن، ما يعني أن جداول العائد على الاستثمار ستكون أطول بكثير مما تفترضه أسعار الأسهم الحالية.
وبناء على ذلك، يرى هذا الفريق أن ما يشهده السوق هو «حركة تصحيحية» ضرورية لإزالة «علاوة الضجيج» من أسعار الأسهم، لتتلاقـى القيم السوقية مع الأرباح الحقيقية. وهذا التصحيح لا يعني نهاية عصر الذكاء الاصطناعي، بل هو مرحلة «هضم للمكاسب» تتسم بالانتقائية، حيث سيعاقب السوق الشركات التي تنفق بلا طائل، ويكافئ التي تمتلك مساراً واضحاً للربحية، ما يعيد السوق إلى مسار النمو المستدام.
