في شهر مارس من 1985 وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بالإعداد لإطلاق ناقلة وطنية جديدة، وحدد مدة 6 أشهر لتنفيذ هذا المشروع الذي أثار آنذاك تساؤلات الكثيرين خاصة في ظل وجود طيران الخليج التي كانت في ذلك الوقت هي الناقلة الوطنية لأربع دول خليجية من بينها دولة الإمارات.
وخلال 6 أشهر من ذلك التاريخ انطلقت طيران الإمارات بطموحات لا حدود لها، مدفوعة برؤية سموه وحققت على مدى العقود التالية معدلات نمو قياسية تحولت معه إلى أكبر ناقلة دولية في العالم، كما استطاعت أن تغير مشهد الطيران العالمي.
ويرتبط انطلاق ونجاح طيران الإمارات منذ 4 عقود بقصة نمو وازدهار دبي ورؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، التي أرادت لهذه المدينة أن تصبح مركزاً عالمياً للمال والأعمال والتجارة والسياحة والخدمات والطيران، بطموحات عالية حدودها المستقبل بكل ما فيه من فرص.
وكان سموه قد اجتمع في مارس 1985 مع موريس فلاناغان، الذي كان رئيساً لدناتا في ذلك الوقت بالمباشرة ووجهه بوضع الخطط لتأسيس شركة طيران، وهو ما تم على مدى الشهور التالية. وبعد أن تبلورت فكرة إنشاء الناقلة، اتجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إلى العاصمة أبوظبي، في زيارة خاصة للقاء المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وعرض عليه المشروع الذي حظي بمباركة الشيخ زايد.
خيار التأجير
ومع عدم امتلاك الشركة الوليدة أية طائرات، كان الخيار المتوافر والأكثر جدوى في ذلك الوقت يتمثل في استئجارها، ومع تعذر التأجير من الخطوط الأوروبية اتجه لفلاناغان الذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع الخطوط الباكستانية، وبالذات مع مدير عملياتها في دبي، إلى الاتفاق مع الخطوط الجوية الباكستانية لاستئجار طائرتين من طراز بوينغ 800-737 وإيرباص 300 بي 4، الملائمتين للرحلات القصيرة والمتوسطة لتشغيلهما على الرحلات إلى منطقة الخليج والأسواق القريبة.
وبعد ذلك تسارعت الاستعدادات بما فيها عمليات التصميم لشعار الناقلة والتصميمات الداخلية التي قدمت لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لاعتمادها استعداداً لتدشين الرحلة الافتتاحية للناقلة.
وهكذا انطلقت «طيران الإمارات» بتكلفة لم تتجاوز 10 ملايين دولار حيث دشنت أولى رحلاتها في 25 أكتوبر من نفس العام، وكانت إلى كراتشي، وكانت هذه الرحلة بمثابة إعلان عن ولادة ناقلة ستلعب دوراً حيوياً في إعادة تشكيل صناعة الطيران الدولية.
وتحت قيادة سمو الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم اعتمدت طيران الإمارات خطة توسع كبيرة لشبكتها، فبعد أن كان التركيز في البداية يقتصر على الرحلات إلى الهند وباكستان، شرعت الناقلة في دخول أسواق جديدة، بما في ذلك وجهات جديدة في أوروبا والشرق الأقصى.
وتوالت الوجهات بعد ذلك، إذ حصلت الناقلة على حقوق الطيران إلى العاصمة الأردنية عمّان ومدينة كولومبو والقاهرة ودكا، وجميعها كانت في 1986، لكن جوهرة التاج للمحطات جميعها كانت «هيثرو»، الذي كان يعد طموحاً لأي شركة طيران تريد تعزيز مكانتها العالمية، كما أنه يمثل أحد التحديات الرئيسة، باعتباره واحداً من أكثر مطارات العالم ازدحاماً.
ومع هذا التوسع، كان لا بد من زيادة عدد الطائرات، حيث توجهت طيران الإمارات بأول طلبية فعلية، ودخلت أول طائرة الخدمة في 3 يوليو عام 1987، طراز إيرباص 304 - 310 وبعدها بأسبوع دخلت الخدمة بأول رحلة تجارية، وتبعتها طائرة ثانية بعد 3 أسابيع، وبنهاية عام 1988، وخلال فترة 38 شهراً من انطلاق عمليات الناقلة، ارتفع عدد وجهات الشركة إلى 13 وجهة، مع دخول دمشق ضمن شبكة وجهاتها.
وانطلاقاً من استراتيجية التميز، أصبحت «طيران الإمارات»، عام 1992، أول ناقلة جوية تجهز مقاعد طائراتها في جميع الدرجات بشاشات فيديو شخصية، ودشنت مبنى خاصاً بركابها في مطار دبي الدولي، كما أصبحت عام 1993، أول ناقلة تقدم خدمة الاتصالات السريعة في جميع درجات السفر، وأول شركة خطوط جوية تزود أسطولها بخدمة «فاكس» في الأجواء.
وفي عام 2000، أصبحت «طيران الإمارات» أول ناقلة جوية تلتزم بطائرة «إيرباص A380»، عندما طلبت شراء 7 طائرات منها، كما فاجأت صناعة الطيران في معرض باريس الجوي عام 2003، بأضخم صفقة في تاريخ الطيران المدني، بطلب شراء 71 طائرة بقيمة 19 مليار دولار.
وتالياً تواصل نمو طيران الإمارات مواكباً النمو المذهل الذي تشهده دبي في مختلف الميادين، لتصبح ناقلة عالمية حديثة ومتطورة.
ونجحت طيران الإمارات في غضون سنوات قليلة في التحوّل من مجرد ناقلة للمسافرين إلى رافد اقتصادي مهم لدبي ما يظهر عبر عشرات آلاف فرص العمل التي تصنعها، وملايين الزوار الذين تنقلهم من وجهة إلى أخرى، إضافة إلى تسهيل حركة التجارة العالمية التي أسهمت في زيادة حجم التبادل التجاري بين الدول التي تصل إليها.
وبحسب دراسة قياس الأثر الاقتصادي لقطاع الطيران في دبي التي أعدتها شركة البحوث العالمية أكسفورد إيكونوميكس، تقدّر مساهمة الإنفاق السياحي الذي يسهم فيه قطاع الطيران بنحو 43 مليار درهم في إجمالي القيمة المضافة، أو 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي لدبي، ودعم 329 ألف وظيفة.
وأوضحت أن أكثر من نصف إجمالي القيمة المضافة، المقدرة بـ23 مليار درهم، جاء من قبل المسافرين إلى دبي على متن طيران الإمارات.
دفع النمو
وكمؤشر على المساهمة الاقتصادية للناقلة في الاقتصاد المحلي أظهر رصد «البيان» للتقارير المالية السنوية لمجموعة طيران الإمارات أن المجموعة قدمت توزيعات أرباح بقيمة 16 مليار درهم، لمالكها مؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية خلال الـ10 سنوات الماضية حيث تم إعادة ضخ هذه التوزيعات في دفع الاقتصاد المحلي.
ويتجاوز الأثر الاقتصادي لطيران الإمارات تسهيل حركة السفر والتدفقات السياحية وتعزيز التبادل التجاري إلى توظيف الأيدي العاملة وتنشيط حركة التصنيع بالإضافة إلى رفع قيمة العلامة التجارية للمطارات والوجهات التي تصل إليها.
وكشفت البيانات المجمعة أن مجمل عدد موظفي طيران الإمارات ارتفع خلال السنة المالية الماضية، إلى 63466 موظفاً، بنمو 12.5%، مقابل 56379 خلال السنة المالية 2022 – 2023، بينما وصل مجمل عدد موظفي مجموعة الإمارات إلى نحو 112.4 ألف .
وبلغ حجم إنفاق طيران الإمارات على كوادرها البشرية العاملة خلال العقد الماضي، نحو 121 مليار درهم، منها أكثر من 16.3 مليار درهم خلال السنة المالية الماضية.
ونقلت طيران الإمارات خلال العشر سنوات الأخيرة قرابة 451 مليون مسافر. ومع أسطول يتكون من أكثر من 260 طائرة، تقوم الشركة بتسيير رحلاتها إلى نحو 150 مطاراً في 80 دولة حول العالم؛ حيث تنطلق من مطار دبي أكثر من 1500 رحلة من رحلات طيران الإمارات أسبوعياً متجهة إلى وجهات مختلفة في قارات العالم ولا تزال الشبكة في توسع مستمر.
وتحولت طيران الإمارات إلى محرك رئيس في قطاع صناعة الطيران عالمياً خلال توسعها الدائم في طلب الطائرات وتشغيلها من عملاقي الصناعة العالميين «بوينغ» و«ايرباص»، ورفعت طلبيات طيران الإمارات حدة المنافسة بين عملاقي الصناعة في العالم عبر الطلبيات المؤكدة التي وصلت حتى الآن إلى نحو 314 طائرة جديدة بما فيها طائرات الشحن، لدعم عمليات التوسع المستمرة وتعزيز قدرتها التشغيلية خلال السنوات المقبلة.
محمد بن راشد: حلم طالما راودني
عن تفاصيل نشأة «طيران الامارات» واحدة من أهم الشركات في دبي.. قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في كتاب «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً»: «حلم طالما راودني، إنشاء شركة طيران خاصة بنا في دبي، شركة طيران لا تكون حكومية بل خاصة، خلافاً لواقع الحال في جميع الدول العربية». ومن ثم استعرض سموه مراحل تأسيس «طيران الإمارات» ليؤكد: اليوم «طيران الإمارات» لديها الكثير من الجوائز العالمية كأفضل ناقل جوي، ولديها تاريخ من الأرباح المتواصلة.
وقال صاحب السمو نائب رئيس الدولة: «بعد سنوات من إنشاء المطار كلفني والدي بقيادة التطوير في مطار دبي، أضفت الكثير من المباني، وأطلقنا في نهاية السبعينيات سياسة الأجواء المفتوحة في مطار دبي لنستقطب المزيد من شركات الطيران، كنا واضحين، أي شركة في العالم يمكنها حجز أي عدد من حقوق الهبوط في مطار دبي. كان هدفنا من سياسة الأجواء المفتوحة تعزيز تنافسيتنا وفتح قطاعات جديدة لاقتصادنا».
وقال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «استدعيت مدير شركة الخدمات الجوية «داناتا» في دبي موريس فلاناغان في العام 1984 إلى مكتبي لأستشيره في حلم طالما راودني، إنشاء شركة طيران خاصة بنا في دبي، شركة تعمل وفق أنظمة القطاع الخاص وتكون لديها الاستقلالية التامة والاستدامة، كان موريس خبيراً في الطيران».
وأضاف سموه: قال لي موريس: «بالتأكيد يا صاحب السمو، يمكن إعداد دراسة عاجلة حول ذلك»، ثم طلبت إعداد دراسة مستقلة للتأكد من جدوى الشركة، جمع موريس فريقاً من عشرة مديرين، وعاد إليّ بخطة واضحة.
وأتت الدراسة المستقلة لصالح هذا المشروع، قدم الفريق اقتراحات عدة لتسمية خطوطنا الجوية الجديدة بما في ذلك «طيران دبي» فأجبتهم بل نسميها «طيران الإمارات»، وأمرتهم بوضع علم دولة الإمارات على ذيل الطائرة.
وأوضح سموه: «من اليوم الذي اتخذت فيه هذا القرار كان أمامنا ستة أشهر لإطلاق الخطوط الجوية، استأجرنا طائرتين من الخطوط الجوية الباكستانية، وأعدنا تجهيزهما بالكامل بما يتوافق مع شعار الشركة الجديدة ومعايير خدمتها الداخلية. طلبت من الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم الذي يصغرني ببضع سنوات، وكان قد تخرج حديثاً من الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون رئيس الشركة الجوية الجديدة».
وأضاف: في 25 أكتوبر 1985 كنت برفقة شقيقي الشيخ مكتوم، وكانت حماستنا كبيرة، مع أن الجميع كان مرهقاً بسبب الضغوط لتشغيل رحلات الشركة في الوقت المحدد. وقال سموه: «اليوم «طيران الإمارات» لديها الكثير من الجوائز العالمية» واختتم: «أحياناً تجني بعض الشركات على نفسها بخوفها من المنافسة فتكون النتيجة خلق منافس يخرجها من المنافسة».
