المتحف المصري الكبير.. التاريخ ينهض من رمال الأهرامات

بعد أكثر من عقدين من الانتظار، وفي يوم مشهود للثقافة العالمية، تفتتح مصر أخيراً اليوم أبواب المتحف المصري الكبير في الجيزة، على مرمى نظرٍ من إحدى عجائب الدنيا السبع الأهرامات الثلاثة .

هذا الصرح العملاق، الذي تجاوزت كلفته المليار دولار، ليس مجرد متحف، بل وثيقة مفتوحة على آلاف السنين من الذاكرة الإنسانية، تُعيد تعريف علاقة العالم بالحضارة المصرية القديمة.

يُعدّ المتحف المصري الكبير، أكبر متحف أثري مخصص لحضارة واحدة في العالم. يمتد على مساحة 500 ألف متر مربع، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بينها كنوز تُعرض لأول مرة منذ اكتشافها، مثل المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون.

الافتتاح يعد لحظة ميلاد جديدة لمصر الثقافية، المتحف لا يستهدف فقط الزوار الأجانب، بل يسعى أيضًا إلى «إعادة المصريين إلى حضارتهم»، عبر عرضٍ تفاعلي حديث يجعل من التاريخ تجربة حيّة. فداخل القاعات الفسيحة، تتجاور الرموز الملكية مع القطع اليومية لحياة المصري القديم؛ الخبز، والأواني، والتمائم، والبرديات، لتروي قصة شعبٍ بنى حضارته على تفاصيل العيش قبل أن يشيّد الأهرامات.

مثلثات متداخلة

المبنى نفسه يُعدّ عملا فنيا بحدّ ذاته. فالتصميم الهندسي الذي أنجزته شركة "هينيجان بنج " المعمارية الأيرلندية، التي فازت في مسابقة دولية لتصميمه، بينما تولت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الإشراف على التنفيذ وتسريعه، جاء على هيئة مثلثات متداخلة تستلهم خطوط الهرم، بينما يطل الواجهة الزجاجية على الأفق حيث تلوح أهرامات الجيزة في الخلفية، في مشهدٍ يربط بين الماضي والحاضر بعينٍ واحدة.

أما من الناحية التقنية، فقد اعتمد المتحف أنظمة عرضٍ رقمية ثلاثية الأبعاد، تسمح للزوار بالتفاعل مع القطع الأثرية دون لمسها. كما زُوّد بمختبرات حفظ وترميم هي الأكبر في الشرق الأوسط، تُعدّ بدورها ثورة في مجال صيانة التراث.

أبرز الكنوز الأثرية التي يعرضها المتحف المصري الكبير

يضم المتحف المصري الكبير، يضم مجموعة هائلة من الكنوز التي تجسد تاريخ مصر القديمة وإنجازاتها على مدى أكثر من خمسة آلاف عام. ويعرض المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل حضارة 30 أسرة حاكمة، من بينها تماثيل ضخمة، وتوابيت، ومجوهرات، وأدوات كانت موزعة في أنحاء مختلفة من البلاد قبل أن تُجمع تحت سقف واحد بتكلفة تجاوزت مليار دولار.

ومن أبرز مقتنيات المتحف تمثال الملك رمسيس الثاني الضخم، الذي يبلغ ارتفاعه 11 متراً ويزن 83 طناً، وقد استقر أخيراً في بهو المتحف الفسيح بعد رحلة طويلة بدأت منذ اكتشافه عام 1820 قرب معبد منف، مروراً بعرضه أمام محطة سكك حديد القاهرة بين عامي 1954 و2006، وصولاً إلى نقله في موكب شعبي مهيب إلى جوار أهرامات الجيزة.

ويحتضن المتحف أيضاً كنوز الملك توت عنخ آمون، التي تُعرض للمرة الأولى كاملة في مكان واحد داخل قاعة مخصصة تضم أكثر من 4500 قطعة من أصل نحو 5000 قطعة اكتشفها عالم الآثار البريطاني هاورد كارتر عام 1922 في مقبرة الملك الشاب بوادي الملوك. وتشمل هذه الكنوز قناع توت عنخ آمون الذهبي المرصّع بالأحجار الكريمة، وتوابيته الثلاثة المتداخلة، أصغرها من الذهب الخالص ويزن نحو 110 كيلوغرامات، إضافة إلى تابوته الحجري المصنوع من الكوارتز الأحمر.

ومن التحف الفريدة المعروضة أيضاً المركب الشمسي للملك خوفو، الذي يُعدّ أقدم وأكبر قطعة أثرية خشبية في العالم، إذ يبلغ طوله نحو 43.5 متراً وصُنع من خشب الأرز والأكاسيا قبل نحو 4600 عام.

ويُعرض المركب في مبنى خاص بمساحة 4 آلاف متر مربع، بينما يمكن للزوار مشاهدة أعمال الترميم الجارية على المركب الشمسي الثاني الذي اكتُشف عام 1987 قرب الهرم الأكبر.

ويُعرض على الدرج العظيم داخل المتحف 42 قطعة أثرية ضخمة من أصل 72 قطعة ضمن التصميم النهائي، تُشكّل مدخلاً بصرياً مهيباً يروي مسيرة الحضارة المصرية القديمة.

وإجمالاً، تم نقل 51,472 قطعة أثرية إلى المتحف المصري الكبير، خضعت منها 50,466 قطعة لعمليات الترميم الدقيقة، بينها 1,240 قطعة من مركب خوفو الثاني، نُقل منها 1,006 قطع إلى المتحف، و5,340 قطعة من مجموعة الملك توت عنخ آمون.

ولا يقتصر أثر الافتتاح على البعد الثقافي فقط، بل يحمل أبعادا اقتصادية وسياسية واضحة. فالمتحف المصري الكبير يُتوقع أن يستقبل ما بين خمسة إلى سبعة ملايين زائر سنويا، ما يجعله أحد أهم محركات السياحة في المنطقة. وتراه الحكومة المصرية بوابة جديدة لجذب الاستثمارات الثقافية، واستعادة صورة مصر كوجهة أولى للتراث الإنساني.

في قلب المتحف، تتوزع قاعات العرض بطريقة تُبرز مراحل تطور الحضارة المصرية، من عصور ما قبل الأسرات إلى العصر البطلمي، مرورًا بفترات الدولة القديمة والوسطى والحديثة. ويُخصَّص جناح كامل لرحلة توت عنخ آمون، حيث تُعرض مقتنياته للمرة الأولى مكتملة منذ اكتشافها في وادي الملوك عام 1922. أما قاعة المومياوات الملكية، فهي بمثابة رحلة روحية في صمت التاريخ؛ إضاءة خافتة، وجدران تحكي بالرموز، ونقوشٌ تهمس بأسماء ملوكٍ ما زالوا يملكون سحر الوجود بعد آلاف السنين.

ويجسّد المتحف توجهاً عالمياً جديداً في عرض التراث وفهمه؛ فالتاريخ هنا لا يُقدَّم كصفحاتٍ جامدة، بل كحكاية نابضة تُروى بوسائل تفاعلية حديثة، إذ ترافق كل قطعة أثرية شاشات ذكية توضح خلفيتها الحضارية والإنسانية، وتمنح الزائر فرصة استكشاف الروابط العميقة بين الفن والحياة، وبين الإبداع والهوية.