السرد الفانتازي أو العجائبي هو الوجه الأكثر انطلاقاً من قيود الواقع في فن الحكاية، إنه أدب يقوم على الخيال والغرابة والمستحيل، فيخلق عوالم تتجاوز قوانين الطبيعة، حيث يتحول الحلم إلى حقيقة، والواقع إلى وهم، والزمن إلى فضاء يتشظّى بلا حدود. ففي هذا النمط، ليس المهم منطق الأحداث، بل قدرتها على إدهاش القارئ، وفتح أبواب المجهول أمامه.
أقدم الأمثلة على هذا السرد كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي شكّل مخزوناً ضخماً للخيال العربي والعالمي: من رحلات سندباد، وبساط علاء الدين الطائر، ومصباحه السحري، وعلي بابا والأربعون لصاً، كلها صور فانتازية تجاوزت حدود المنطق، لكنها صارت جزءاً من الذاكرة الإنسانية.
قيمة
في الأدب العالمي، ومن كولومبيا تحديداً، برز كتّاب مثل غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «مئة عام من العزلة»، حيث تتجاور القرية الواقعية مع الأحداث المستحيلة (صعود ريميديوس الجميلة إلى السماء)، وخورخي لويس بورخيس الذي نسج نصوصاً تقوم على المتاهات والمرايا والمكتبات التي لا تنتهي.
السرد الفانتازي ليس ترفاً أدبياً في عصرنا العملي والتكنولوجي، بل ضرورة إنسانية، ففي عالم تُقاس فيه القيمة بالأرقام والإنتاجية والسرعة، يطلّ هذا النوع من الأدب ليقول إن الإنسان ما زال بحاجة إلى الحلم والدهشة والرمز، إنه لا يعالج الواقع المادي مباشرة، لكنه يفتح نافذة جانبية نطلّ منها على المجهول، فنكتشف أن ما نخشاه في التقنية والآلة والمدينة الحديثة ليس إلا صورة جديدة للغول أو للبحر الأسطوري أو للمرايا البورخيسية.
في الأدب العربي الحديث، استخدم كثير من الكتّاب الفانتازية للتعبير عن الواقع بطريقة غير مباشرة، نجيب محفوظ في روايته «رحلة ابن فطومة» أبدع عوالم متخيلة أشبه بالمدن الأسطورية، تمثل مراحل من تطور الحضارات البشرية، وفي الإمارات نجد رواية «سلطنة هرمز»، وفانتازيا والد بدرة، (عبدالرحمن الحجازي) وهو يصف موته وخروج روحه أمام صحبه ورفاقه فوق السفينة، من خلال ضمير المتكلم، إذ يدخل القارئ عبرها إلى عالم غرائبي يعكس الخيال الجماعي أمام الموت كيف يوصف لحظته، وكذلك أعمال سارة الجروان عوالم متوترة تتقاطع فيها الأسطورة بالواقع بشكل بديع.
أفق بديل
لكن بطبيعة الحال السرد الفانتازي (العجائبي) لا يعالج الواقع المادي مباشرة، بقدر ما يخفف من وطأته عبر فتح أفق بديل، من عَالَمٍ يذكّر القارئ بأن المستحيل ممكن، وأن وراء كل حقيقة صلبة احتمالاً آخر، وبالتالي يستطيع السرد الفانتازي أن يزرع بذرة السؤال في قلب اليقين العلمي، ويذكّرنا بأن التقنية مهما بلغت، لن تجيب عن أسئلة الوجود والروح والموت، بقدر ما يمنح الإنسان فسحة للتأمل في مخاوفه المكبوتة، فالغول والجنّ والكائنات الغرائبية ليست مجرد خرافات، بل صور رمزية للهواجس الجماعية عن المجهول والخوف، وبقراءتنا اليوم لهذا السرد العجائبي، نكتشف أننا لم نغادر تلك المخاوف، بل بدّلنا أسماءها، الخوف من الذكاء الاصطناعي، من الحروب النووية، من عزلة المدن الحديثة، لتعكس هذه المخاوف مرآة الخيال، فتجعلها قابلة للتأمل، وتعيد إلى الإنسان توازنه النفسي، في زمن يغرقه الواقع العملي في البرودة، ويقدم الأدب العجائبي دفئاً رمزياً يذكّر بأن وراء كل آلة أسطورة، وراء كل تقنية حكاية، وراء كل مدينة أسطورة مؤسِّسة.
وبدلاً من ترك خيال الإنسان مهمّشاً أو منسيّاً، يتدخل هذا الأدب ليعيد إلى الإنسان قدرته على الدهشة، تلك التي فقدها في زحمة اليوم.



