تعجّ ذاكرة النساء الفلسطينيات بقصص ولدت أمام الطابون، فلطالما اختلطت رائحة رغيف الخبز الساخن، طيّب النهكة، بقهقهاتهن، وأحياناً دموعهن، في لقاءاتهن الدورية، التي كانت حرارتها تفوق حرارة الفرن.
من بين ألسنة النار يستخرجن «العيش» في تعايش مع اللهب، لإنتاج رغيف الخبز، ودفع عجلة الحياة، وعبر التاريخ اشتهرت نساء فلسطين بصناعة الطابون وفرن الحطب، لدرجة أن ذلك أصبح بالنسبة لبعضهن مهنة يتعيشن منها، بل إن النساء الفلسطينيات ما زلن يتمسكن وينفردن بخبز الطابون، بسبب تردي الوضع الاقتصادي وازدياد معدلات الفقر، وللمساهمة في الحفاظ على التراث الفلسطيني من الضياع.
وفي المناطق الريفية الفلسطينية، ما زال الطابون، وأحياناً فرن الحطب، الوسيلة الوحيدة لإنتاج الخبز وطهي الطعام، باعتبار هذا جزءاً من التراث والأصالة الفلسطينية، الذي ما زالت البيوت الفلسطينية تتمسك به، وتحرص على اقتنائه فيها كجزء أساسي من تكوين البيت، في صناعة نسوية خالصة، تتوارثها المرأة والبنت الفلسطينية عبر الأجيال المختلفة.
في قرية القبيبة شمال غرب القدس، تتمسك فاطمة الجمل (78) عاماً، بصناعة الطابون والأفران التي تعمل على الحطب، مبينة أنها جزء من التراث الفلسطيني، لافتة إلى أنها نشطت في هذه المهنة أخيراً، بفعل غلاء الغاز وارتفاع سعر الخبز الجاهز، وللتخفيف من الأعباء المادية الملقاة على كاهل أسرتها محدودة الدخل.
تقول الجمل: «أشغل وقتي، وأحافظ على هذا التراث من الاندثار، وورثت هذه المهنة عن والدتي، وأعمل بها منذ أكثر من 50 عاماً، ومن خلالها أسهم في إعالة أسرتي، وعالجت نفسي من عدة أمراض كانت تلازمني.. كنا نعيش وضعاً صعباً، والحمد لله هذه المهنة انتشلتنا من الفقر».
تضيف لـ«البيان»: «الفترة الأخيرة شهدت إقبالاً كثيفاً من النساء في قرى المنطقة، خصوصاً من العائلات المستورة، التي تعاني من ارتفاع أسعار الوقود والغاز، كما أن الأجواء الشتوية تفرض نفسها، فتجد النساء في جلسات الطابون والتحلق حول فرن الحطب، مناسبة مثالية لتبادل الحديث، والاستمتاع بالدفء».
توالي: «على الرغم من المعاناة التي نجدها أحياناً، كالتعرض للنار، واستنشاق الدخان، فإننا ننسى ذلك أمام خبز الطابون وفرن الحطب، وتذوق طعمه الشهي».