ريبورتاج

حلب المدينة الجريحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لطالما كانت للحروب عبر التاريخ، تأثير مباشر على العمران والمجتمع، حيث تلاشت مدن كانت عريقة، وازدهرت أخرى كانت أقل حظاً في السابق، ودخلت حضارات مدن دورات من الصعود والهبوط، ويبدو أن المدن السورية شهدت خلال سنوات الحرب الحالية، المستمرة منذ 2011، قد تعرضت لإعادة هيكلة من ناحية العمران بالمعنى الحضاري، فبينما تتراجع مدن كبيرة، مثل حلب وحمص، بسبب حجم الدمار الكبير، وتحول خطوط التجارة الداخلية إلى مراكز حضرية جديدة، يصعد نجم مدن صغيرة ومتوسطة، مثل منبج والقامشلي وطرطوس، عبر عوامل عديدة، القاسم المشترك بينها، هو التحولات التي صنعتها الحرب.

تعد حلب، مدينة وريفاً، المثال الأبرز عن هذه التحولات العمرانية. على مدى عقود، كانت هذه المدينة التاريخية في أقصى الشمال السوري، مفخرة الاقتصاد والصناعة في سوريا، وشكلت عصباً اقتصادياً على المستويين السوري والإقليمي، إذ كان تحتل مرتبة اقتصادية متميزة بين سوريا وتركيا والعراق، لكن هذا التاريخ الاقتصادي العريق، سرعان ما انهار بعد الحرب السورية، حيث شهدت المدينة ما أطلق عليه الإعلام «المعركة الكبرى»، نهاية عام 2016، انتهت بسيطرة الجيش السوري على كل مفاصل المدينة، فيما بقي الدمار علاقة فارقة في «الشهباء»، وهو لقبها التاريخي.. واليوم، ثمة مخاوف وتحذيرات من الفشل في إنعاش هذا الركن الاقتصادي.

كانت حلب الخاسر الأكبر من الحرب السورية على المستوى الاقتصادي والإنساني، فضلاً عن الجوانب التاريخية والحضارية التي خسرتها هذه المدينة، وبحسب تقييم منظمة «يونيسكو»، التابعة للأمم المتحدة، أواخر 2016، فإن المعارك أدت إلى تخريب 60 % من معالم المدينة، 30 % منها تم تدميره بشكل كامل، لا سيما في أحيائها الشرقية، والشمالية والجنوبية، وعلى الرغم من هذا الرقم التقديري لحجم الخسائر في المدينة، إلا أن العديد من المتخصصين في الاقتصاد، يؤكدون أن حجم الدمار والخسارة أكبر من هذه الأرقام التقديرية، ولا يمكن الاعتماد الدقيق على هذه الأرقام.

ركام في الجامع الأموي

 

مصانع في مهب الريح

تشير مصادر اقتصادية مطلعة، إلى أن ما يقرب من ألف مصنع في مدينة حلب، تم تحويلها عبر السوق السوداء إلى تركيا، عدد كبير من هذه المصانع، تم تفكيكها بشكل بدائي واعتباطي، وبيعها في الأسواق التركية.

فضلاً عن ذلك، اضطر العديد من أصحاب المصانع لدفع الإتاوة (ضريبة فرضتها الفصائل المسلحة)، لبعض الفصائل، من أجل حماية مصنع في حلب الصناعية، ومن ثم نقله بشكل رسمي إلى مدينة غازي عينتاب التركية، التي أيضاً انتعشت بشكل كبير، على إثر تهاوي القوة الصناعية لمدينة حلب، حيث خسرت المدينة بنيتها التحتية الصناعية بشكل شبه كلي، وما تبقى من عمران ظاهر في المدينة، معظمه سكني.

العديد من المصانع التي غادرت، من الصعب أن تعود إلى موطنها، إلا بعد مرور سنوات على الحرب، ويقول أحد أصحاب المصانع الذين غادروا حلب، مع موجة نزوح أصحاب الأعمال، أن الذين غادروا، باتوا يفكّرون في حلب كمدينة استهلاك، وليس مدينة إنتاج.

حاولت الحكومة السورية إنقاذ مدينة حلب من السقوط في العجر الاقتصادي، وضخ الحياة الاقتصادية فيها، وفي فبراير من العام الماضي 2020، أقرت عشرات المشاريع المختلفة، بهدف إعادة تأهيل محافظة حلب، ورصدت، أكثر من 100 مليار ليرة سورية لإصلاح منشآت متفرقة في المدينة، إلا أن هذا المبلغ، لا يشكل أي أهمية لإعادة نهوض المدينة، على اعتبار أنه إنفاق من أجل إعادة إعمار لبنية تحتية مدنية، وهي الأولوية حالياً، ولم تصل هذه الجهود بعد إلى مرحلة إعادة إعمار البنية الصناعية. وخصصت الحكومة مشاريع إصلاحية لكل من قطاع الكهرباء والقطاع الزراعي، وقطاع الصحة، وقطاع التربية، بهدف إعادة إحياء المدينة التي تضررت بشكل كبير، حيث اجتاح الدمار حوالي 200 مدرسة، و19 مركزاً طبياً، وعدداً من الصوامع والمطاحن.

كفاح للعودة إلى الحياة

 

خروج من المنافسة

رغم محاولات العديد من الصناعيين العائدين النهوض مجدداً، إلا أن هناك تحديات تفرضها الحالة السورية الاقتصادية، من قلة المستلزمات الصناعية، مثل النفط والكهرباء، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية، هذه التحديات ما زالت تشكل عائقاً أمام تجاوز أزمات الحرب وتداعياته.

في سبتمبر من عام 2020، بدأت معاناة الصناعيين في حلب تتزايد، محاولين الخروج من الضغوطات الاقتصادية، وعقد أعضاء غرفة صناعة حلب، اجتماعهم السنوي، مطالبين باستكمال وتأمين الخدمات الضرورية للمناطق الصناعية، وزيادة ساعات التغذية الكهربائية، وتفعيل الخدمة الهاتفية. وفي مطلع نوفمبر الماضي (2020)، حذر عدد من صناعيي مدينة حلب، من خروج المدينة من المنافسة صناعياً، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، وعدم وجود التيار الكهربائي بشكل مستمر في المدن الصناعية.

لا تقتصر مشكلات إعادة البناء فقط على الناحية الخدمية، فهناك مشكلة المواصلات بين المدن والمراكز الحضرية، فهناك عشرات الحواجز المنتشرة لأطراف الصراع على الطرق، حتى حين يكون الطريق لجهة واحدة، ويضطر التجار وأصحاب البضائع إلى دفع مبالغ مالية للسماح لها بالمرور إلى وجهتها، إضافةً إلى قلة التصدير بسبب الحصار.

واقترح الصناعيون على شركة الكهرباء في حلب، تزويد المدن الصناعية المنتشرة حول المدينة بالتيار الكهربائي بشكل مستمر، وبدون انقطاع، كون الحصول على مادة «المازوت» الصناعي لتشغيل المولدات الكهربائية، كبديل عن الكهرباء، باتت بأسعار عالية.

من التحديات الأخرى التي تحول دون انتعاش حلب، تعدد مراكز السيطرة التي تعاني منها سوريا. فرغم التفاهمات الاقتصادية بين المناطق المنقسمة، إلا أن حالة السوق المتذبذبة في الأسعار، والفروقات المعيشية بين المناطق السورية، تحول دون استقرار صناعات حلب، رغم كل المحاولات الإسعافية. ما زال الواقع في سوريا غير قادر على استيعاب هذه المتطلبات للصناعيين في حلب، وخلال السنوات الأربع الماضية، بعد توقف الحرب بالكامل في مدينة حلب، حاولت الحكومة السورية، دون جدوى، تحقيق الحد الأدنى من تلبية احتياجات المدنيين وعودتهم، ولم تتمكن من توفير البنية التحتية للمصانع من كهرباء ونفط، وهذا سيبقى إلى وقت طويل، عقدة حلب الصناعية.

وجهات جديدة تزدهر

 

مدن ناشئة

في الوقت الذي فقدت فيه حلب وهجها الصناعي، وتعرضت لتدمير واسع، طال المساكن والمدن الصناعية الكبرى، فيما تهجرت القوة البشرية الهائلة من المدينة وريفها، سطع نجم مدن أخرى في سوريا، أصبحت عقدة اقتصادية، ومدن ناشئة بغياب أهمية حلب الصناعية.

مدينة إدلب المجاورة لحلب، كانت من هذه المدن التي انتعشت اقتصادياً، والسبب الرئيس، وجود ما يقارب 3.5 ملايين شخص في المدينة وريفها، وهذا جعل منها مركزاً مالياً ضخماً، خصوصاً للمنظمات، وباتت من مصادر العملة الصعبة في سوريا.

مدينة القامشلي أيضاً في أقصى الشمال السوري، كانت من المدن المنتعشة في الشمال السوري، بسبب حالة الاستقرار الأمني، ووفرة المواد الأولية، وحالة وفرة نسبية، باعتبارها تقع في قلب المنطقة النفطية في الجزيرة السورية، وهذا أدى إلى نمو هذه المدينة اقتصادياً بشكل لافت، بل أصبحت مركزاً لحركة الأعمال، واتسع نطاق الأعمال في الأسواق.

وقد لعب توفر البترول في الجزيرة السورية، إلى نمو هذه المدن، حيث يبلغ الإنتاج اليومي للنفط في سوريا ما يقارب 80 ألف برميل، جزء كبير منه يتم توزيعه على المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، والفصائل المسلحة شمال غربي سوريا، ناهيك عن قرب هذه المدينة من معبر سيمالكا الحدودي بين العراق وسوريا.. لكن السؤال، هل تستطيع هذه المدن القيام بدور حلب الصناعي؟

سوق أثري بعد الترميم

 

العقل الاقتصادي الحلبي

في الأدبيات السياسية التاريخية في سوريا، يجري تداول أنه على مر السنوات السابقة، حين تقع الخلافات بين دمشق وبغداد، يقوم تجار حلب بحل هذا الخلاف، حفاظاً على العلاقات بين البلدين أولاً وحماية لمصالحهم الاقتصادية ثانياً، وهي مقولة يتم الاستناد عليها حول إظهار مهارة العقل التجاري الحلبي. فعلى الرغم من نمو الكثير من المدن السورية حديثاً بعد تدمير حلب - كما أوردنا سالفاً- مثل القامشلي ومنبج، وإلى حد ما مدينة إدلب القريبة من حلب، إلا أن كل هذه المدن الناشئة، لم تتمكن من بناء مناطق صناعية على غرار حلب، وهي لا تزال إلى هذه اللحظة، تعتمد على منتجات مصانع حلب، لما لها من أصالة وقيمة في السوق التجارية السورية.

فالبنية التحتية الاقتصادية التي أسسها تجار حلب، الأكثر انتشاراً من بين تجار سوريا، ما زالت قائمة، وهي تحاول النهوض بإمكانات ذاتية محضة، ويرى الكثر من المحللين أن حلب، رغم أنها الآن في طور التلاشي والغياب عن المشهد الاقتصادي السوري، إلا أنها قادرة على إعادة إنتاج نفسها، كمدينة صناعية قوية. فعلى سبيل المثال، ما زالت مدينة مثل منبج، التي تبعد 80 كيلو متراً عن مدينة حلب، تعتمد على الصناعات الثقيلة من حلب الصناعية، وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة القامشلي، إذ ارتبطت هذه المدن تاريخياً بالمدن الصناعية في حلب، فهي غير قادرة على لعب دور حلب، رغم توفر الإمكانات.

 

رهان رغم الدمار

لم تتمكن المنافس التاريخي لمدينة حلب (دمشق)، من سد الثغرة الصناعية والإنتاجية في سوريا، وعلى الرغم من عودة دمشق ومحيطها إلى سيطرة الحكومة السورية، إلا أنها لا تزال غير قادرة على تلبية الاحتياجات الصناعية. لذا، تعمل الحكومة السورية على إعادة التوازن الصناعي إلى البلاد، ولذلك، تسارع لإعادة إعمار حلب، وفي فبراير من العام الماضي، استعادت القوات الحكومية حي جمعية الزهراء، ومنطقة الليرمون، وصالاتها الصناعية شمال غربي المدينة، لتصبح مدينة حلب بأمان كامل، بعيداً عن تهديدات الصراع العسكري، هذه الخطوة منحت الأمل والحماس للكثير من الصناعيين، على إعادة تفعيل مصانعهم وأعمالهم.

وفي نهاية العام الماضي، أعلنت الحكومة السورية، بدء تسيير الرحلات الجوية عبر مطار حلب الدولي، في إطار تشجيع العائدين من الصناعيين لاستئناف عملهم في التصدير، ومع ذلك، رغم كل هذه المحاولات، تبقى قدرة حلب على النهوض مجدداً، مرتبطة بالحالة السياسية المتعلقة بالعقوبات الاقتصادية، وصعوبة الاستيراد والتصدير.

Email