صخر الندى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشعر ديوان العرب، هذا النعت يعني بالنسبة لي الشعر مؤسسة العرب، فلقد كان يقوم بدور المؤسسة في زمان المشافهة واللا تنظيم، ولابد أن التوثيق وعملية الإعلام والتأريخ والبروبغاندا التي كان يقوم بها القصيد هي من شأن المؤسسة اليوم.

وما يهمنا اليوم من الوظائف الجسام التي كان تؤديها مؤسسة الشعر، إشاعة قيم العرب الرفيعة من أجل تكريسها كقانون عام متوافق عليه لحماية الفرد والمجتمع، الشعر كان يقوم بهذا، ينشر الفضائل بين العرب ويروج لها في محافلهم وأسواقهم الكبرى، كعكاظ في الجاهلية والمربد في الإسلام.

ولعل من أهم أبواب الشعر وأغراضه التي أشاعت قيم الخير والنبل، ودافعت عنها بصورة مباشرة وإيحاءً: المديح والرثاء والفخر، وهي أغراض احتفت بالقيم السامية أكثر مما أثنت على أصحابها، ولا نقول ذلك إلا لأن قيمة الممدوحين أو المرثيين أو المفتخرين بأنفسهم إنما هي مستمدة من مكانة هذه القيم في نفوس العرب وجبلتهم.

سألتفت فوراً هنا إلى الخنساء «تماضر بنت عمر السلمية» التي بالغت في البكاء على أخيها صخر ونظمت فيه مراثي ظلت معلقة في قلوب العرب عبر الزمان. ولقد كان أخوها عماداً لقبيلة برمتها، بعد أن ظل مدخراً لسداد كل ثغر من ثغور الحياة وحاجاتها،«فاعل خير بمعنى الكلمة» ولكم جسد صخر أمثولة في الندى والكرم، خاصة بالنسبة إليها.

فرغم أنه ابن ابيها فقط إلا أنها جزعت لموته أكثر مما فعلت لموت أخيها الشقيق معاوية، والسبب هو ما اتصف به صخر من أخلاق الفرسان، بذلاً ووفاء وحكمة ومواساة للمحتاجين، ومثل «صخر الندى» يستحق البكاء عليه مدى الحياة، ولذلك أذن الفاروق عمر بن الخطاب خلال خلافته بأن تواصل أخته الشاعرة حدادها على أخيها وترثيه أبداً.

لأن في نعيه نشرا واحتفاء بأعلى صفات العرب مرتبة، الشهامة والنبل والكرم ونصرة الضعيف، وبالقيم الإنسانية الخيرة التي لا تزال البشرية تنادي بها.

ولذلك فكلما أشرقت شمس صباح من صباحات تماضر تذكرت على الفور ذلك الوجه الوضيء المبشر بالخير كالشمس تنقشع بها الظلمات فتتناثر الأرزاق «يذكّرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل طلوع شمس» فهو رجل به تشيع السعادة والحياة في النفوس جميعاً، عندما كان يطلع على الناس يوماً، كيف لا:

وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ

كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ

نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ

فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ

وَمُطعِمُ القَومِ شَحماً عِندَ مَسغَبِهِم

وَفي الجُدوبِ كَريمُ الجَدِّ ميسارُ

طَلقُ اليَدَينِ لِفِعلِ الخَيرِ ذو فَجرٍ

ضَخمُ الدَسيعَةِ بِالخَيراتِ أَمّارُ

وقالت أيضاً في شيم الخير التي حازها صخر:

نَعمَ الفتى كان للأضياف إذ نزلوا

وسائلٍ حل بعد النوم محروبِ

كم من منادٍ دعا والليل مكتنعٌ

نفّستَ عنه حبال الموت مكروبِ

فككته ومقالٍ قلته حسنٍ

بعد المقالة لم يؤبن بمكذوب

 

Email