ابن البنَّاء المراكشي.. عالم موسوعي متفرد

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي «البيان» ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

حين كان العالم الإسلامي يرزح في أغلال الاستعمار الأوروبي، عاش التراث العلمي، الذي سطره العلماء الأفذاذ من أبناء الأمة منذ صباح نهضتها المشرقة، مرحلة غربة وضياع، سوَّغت لأيدي العابثين من المحتلين أن تمتد لتسطو على ما تشاء من ذخائر المعرفة، ثم تنتحل الجهود التي أنتجتها عقول الأعلام السابقين من عباقرة المسلمين، في سلسلة متعاقبة من النهب والتزييف وتزوير الحقائق التاريخية.

ربما يكون كتاب «تلخيص أعمال الحساب»، الذي ألَّفه أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، المتوفى سنة 721هـ، الملقَّب بـ«ابن البنَّاء العددي»، أوضح مثال على ما تعرَّض له تراث الأمة من اعتداء بالسرقة.

إذ أثبت عالم الرياضيات الفرنسي ميشال فلوريال شال، أن كثيراً من أفكار ابن البنَّاء وبحوثه فيه سطا عليها بعض المشتغلين بالرياضيات ونسبوها إلى أنفسهم، وليس أدل من ذلك على عِظَم قيمة هذا العمل العلمي النفيس، الذي توجد مخطوطات منه في المتحف البريطاني بمدريد، ووصفه ابن خلدون في مقدمته بأنه «كتاب جليل القدر»، بينما قال عنه المؤرخ البلجيكي جورج سارتون في موسوعته «المدخل إلى تاريخ العلوم»: «إنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب».

تعديلات

وتحدَّث ابن البنَّاء في مؤلَّفه، من خلال مقالات مطوَّلة، عن الكسور وقواعد جمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأين لحل المعادلات من الدرجة الأولى والأعمال الحسابية، مُدخِلاً بعض التعديلات على الطريقة المسماة بـ«طريقة الخطأ الواحد» التي صاغها في صورة قانون رياضي.

إضافة إلى ما اشتملت عليه صفحات الكتاب من شرح لطرائق إيجاد القيم التقريبية لكلٍّ من الجذور الصم والجذور التكعيبية لبعض المقادير الجبرية.

«العددي»

وُلد ابن البنَّاء عام 654هـ في مراكش بالمغرب العربي، ويرجع سبب لقبه إلى مهنة جده ووالده التي انصرف عنها إلى الاشتغال بطلب العلم، حين أدخله أبوه الكُتَّاب، فحفظ القرآن الكريم، ودرس الفقه وعلوم اللغة العربية، ثم ارتحل إلى فاس، وهناك في جامع القرويين تعلَّم الطب والرياضيات والفلك.

ولمَّا تميَّز في علم الحساب أُطلق عليه «العددي».

ويكاد الناظر في إسهامات ابن البنَّاء أن يحكم بأنه أمام شخصيات منفصلة لا شخصية واحدة، لما تمتاز به جهوده الغزيرة من موسوعية يندر أن نرى نظيراً لها في التراث الإنساني، إذ أثرى علم الفلك ببحوث وجداول فلكية صارت أساساً في ضبط المواقيت.

وانتقد مسلَّمات كثيرة، ووضع قوانين أضحت مثار إعجاب المتخصصين. وقدَّم إضافات في الهندسة استعان فيها بمهارته في علم العدد، إلى جانب بصماته البارزة في المنطق والفلسفة وغيرهما.

85

ويبدو أثر تلك الموسوعية على مؤلفات ابن البناء المتنوعة، التي تجاوز عددها 85 كتاباً، توزعت على تخصصات متباينة، منها: 32 في علوم الشرع واللغة، و14 في الرياضيات، و31 في الفلك، و8 في الفلسفة، من أشهرها: «اللوازم العقلية في مدارك العلوم»، «النجوم».

ومن غير المعقول أن تزور شخصية هذا العالم الجليل دنيانا وتحمل رحالها مودعةً من غير أن تؤثر في أبناء عصره، الذين جذبهم اتساع معارفه وتوقُّد فكره، منهم: أبو زيد اللجائي وابن النجار التلمساني. بل ليس غريباً أن ينبغ من بين أولئك الذين نهلوا من فيض علمه تلميذ نجيب كالقلصادي الذي استنبط علامة الجذر التربيعي.

 

Email