حال السلف مع القرآن

ت + ت - الحجم الطبيعي

أنزل الله تعالى القرآن الكريم على عبده ونبيه المصطفى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وأنزله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، أنزله ليكون شرعاً محكماً وهدياً قيماً، وآيات ناطقة دالة على الله تعالى فيوحَّد ويعبد، ويصمد إليه ويقصد، كما قال الله تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وقال سبحانه: {ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} وقد تكرر هذا البيان الكريم لحال القرآن العظيم حتى يعرف الناس عظمة هذا القرآن؛ فيُعنون به تلاوة وتدبراً واستنباطاً فيجدون فيه بغيتهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فلا يبتغون الهدى من غيره فإنهم سيظلون عن سواء السبيل، وهذا يقتضي أن يعرف كل مسلم ماذا أراد الله تعالى منه من خلال كتابه المبين ورسوله المصطفى الأمين، وهي الدعوة التي وجهها الله تعالى لجميع عباده ليتدبروه حق تدبره كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} فجعل علة تنزله تدبر آياته.

ومعرفة مراده منه، والتدبر معناه التعقل والتفهم حتى يقع الأمر موقعه من قلبه فيمتثله، ويقع النهي منه موقعه من قلبه فينتهي عنه، ويقع الترغيب في الخير موقعه كذلك فيكون سائقاً له للخيرات، والترهيب كذلك فيكون حاجزاً له عن المنكرات أو التأخر في الطاعات، ويخبره بمكارم الأخلاق التي هي صنو الإيمان فيتحلى بها، ومساوئ الأخلاق التي هي سمة أهل النفاق وأهل النار فيجتنبها، ويخبره بأخبار الأمم السابقة فيتعظ بها، ويعلم أن سنة الله التي خلت في الأولين يمكن أن تحل بالآخرين؛ لأن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول، فهي جارية على قانون العدالة الإلهية التي رسمها لعباده، وكذلكم أخباره بالمغيبات من جنات وما فيها من نعيم مقيم، ونار وما فيها من عذاب أليم، فيعلم أن خبر الله تعالى حق لا مرية فيه، فيؤمن به إيماناً لا يقبل الشك والريب، لأنهما مخلوقتان له سبحانه والله عز وجل قد وصف خلقه وهو أعلم بما فيه، فيعمل العبد لهما عملا يبلغه رضوان الله في جنته، ويجنبه سخطه في ناره، وعندئذ يكون القرآن قائداً له إلى الجنة ومبعداً له عن النار.

كما قال ابن مسعود رضي الله عنه «يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون قائداً إلى الجنة، ويشهد عليه فيكون سائقاً له إلى النار» ولا يكون سائقاً له إلى النار إلا إذا لم يقف عند حدوده، ولم يمتثل أوامره، ولم يمتنع من نواهيه، ولم يسابق إلى خيراته، ولم ينزجر بزواجره ومنهياته، وكأنه لم يرفع لذلك رأساً فيكون القرآن حجة عليه لا له، وشاهداً عليه لا له، لأنه قد بلغته كلمة الله فأعرض عنها فلم يكن منتفعاً ولا واعياً، فيزج بقفاه إلى النار؛ لأن من علم المراد إذا أعرض عنه وتنكر له ليس كمن لم يعلم ذلك، وهذا ما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقُه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقد حذر الله تعالى عباده عن مثل ذلك بقوله: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وذكرُ الله تعالى هو كتابه العظيم.

كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال جل شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي يتفكرون في آياته وما فيه من أحكام ومواعظ وأمثال وأخبار وآداب، فينتفعون بذلك ولا يعرضون عن ذلك إعراض من لا يهمه مراد الله تعالى منه.

نسأل الله أن يجعلنا ممن يقرأ القرآن فيرقى ولا يجعلنا ممن يذل ويشقى.

 كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email