ذكرى يوم الفرقان

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا هلّ يوم السابع عشر من شهر رمضان فإن على المسلمين أن يتذكروا عظيم فضل الله تعالى عليهم بما منحهم فيه من عزّ مشهود، ونصر ممدود، وذلك ما حدث في يوم الفرقان، يوم بدر الكبرى في العام الهجري الثاني، فهو من أيام الله الفاصلة بين الحق والباطل، ولذلك سماه الله تعالى يوم الفرقان كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن الله تعالى فرَّق فيه بين الحق والباطل، بنصر رسوله والمؤمنين، نصرا من عنده سبحانه لم يكن بقانون العتاد والعُدَّة، بل بصدق الالتجاء إليه، وكمال التوكل عليه سبحانه، فإذا صح ذلك جاء النصر الموعود المشار إليه بقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.

وقد كرر الله تعالى هذه الآية مرتين في آل عمران والأنفال للتأكيد على أن ما منَّ به الله في هذه الغزوة لم يكن بكفاءة الصفين المتقابلين عددا أو عدة، بل لأن الصف المقابل كان يقاتل بالباطل ليدحض به الحق.

وهذا غاية البطر والكبر عن قبول الحق، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ومن كان كذلك فلا بد أن ينال وبيل العقاب، ولو لم تكن الوسائل متكافئة، بل يكفي الطرف المقاتل على الحق أن يبذل الأسباب المتيسرة، وعند الله إيجاد المسبَّب وهو النصر المبين الذي كتبه الله لنبيه وعباده الصالحين، وقد كان مبدؤه كفا من حصباء قذفها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «شاهت الوجوه» فكانت قنبلة مسيلة للدموع أعمت أبصارهم، فما بقي أحد من المحاربين الأعداء، إلا وصل التراب عينه، وقد كان صلى الله عليه وسلم صادق التوكل على الله تعالى، و كأنه يرى مصارع القوم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، ماداً يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتُك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي مُمدكم بألفٍ من الملائكة مُردفين} فأمده الله بالملائكة.

لقد كانت هذه المعركة الفاصلة بعد إذن الله تعالى لنبيه بالقتال دفعاً للظلم الذي أصاب المهاجرين، ومنعاً للظالمين من أن يستمروا في ظلمهم وصدهم عن سبيل الله، ومحاولتهم إطفاء نور الله، فكان على المظلومين أن يستعدوا بما استطاعوا كما قال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.

ذلك لأن الجهاد أتاهم بغتة، حيث لم يكونوا يتوقعون الغزو، وإنما خرجوا لاسترداد بعض حقهم من تجارة المشركين، فقد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فكانوا راغبين في المال الذي مع أبي سفيان في قافلته الكبيرة، وليس القتال، ولكن الله أراد أن يحق الحق ويبطل الباطل، فأُفلت العير منهم، فما وسعهم عندئذ إلا الثبات، حتى إن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستشير أصحابه ويكرر، قال: إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتُها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرنَّ معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى من بني إسرائيل: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصِل حبالَ من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت.

 كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email