الحطيئة.. الشاعر الذي هجا نفسه

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتفهَّم كل الكادحين إصرار الإنسان على إعلاء شأن مهنته التي هي مصدر قوت عيشه، وخوفه المفرط من عدم رواج سلعته التي يؤذن كسادها بانهيار حياته.

ومن لطائف الحكمة الربانية أن تكون حاجات بعض البشر موارد رزق لبعضهم، وأن تفي رغبات أقوام بسد عِوَز آخرين.

والشعر العربي ليس خارج هذه القاعدة الكونية المطردة، بل ربما كانت الظروف المعيشية هي المحرك الحقيقي وراء إبداع كثير من القصائد التي تكتظ بها الدواوين.

ومنذ زمن سحيق، عرف شعرنا العربي غرض المديح، حتى اتهم غير المنصفين تراثنا الأدبي برمته بأنه قائم على التكسب لا غير.

ويبدو أن شاعرنا جرول بن أوس، الشهير بالحطيئة، أراد منذ بداياته أن يسلك هذه الطريق المعتادة في التكسب، فقد ذُكر عنه أنه كان يمدح لنيل المال، فإذا حُرم هجا.

وإذا كان الحطيئة قد ذاع صيته في تاريخ الشعر العربي بصفته شاعرًا هجَّاءً، فمعنى هذا أنه حُرم مراتٍ لا تُحصى، حتى أصبح هذا الغرض الشعري علامة عليه، وأنه فشل في التكسب بالمديح حتى انعكس الفشل على شخصيته صيحةً أدبيةً يصبُّ بها جام سخطه على المجتمع بكامله.

ولعل أشهر أشعار الحطيئة في الهجاء ما قاله بشأن أحدهم:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
 

 

وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
 

 

واللافت أنه لم يجد ما يصم به الرجل من المثالب غير أن يصفه بالكسل والقعود وعدم الاجتهاد في طلب المعالي، وهو ما يشي بأن الحطيئة كان يجلُّ قضية الارتحال في سبيل الكسب.

وأظن الحطيئة استعمل الهجاء وسيلة لجمع المال كما كان يود أن يستعمل المديح، وغير مستبعد أن يعمد شاعر إلى النيل من شخص ببذاءة لسانه لمصلحة آخر مقابل عائد مادي.

لكنَّ الملاحَظ أن الحطيئة أدمن السب والشتم بشعره حتى تأصَّل الهجاء في شخصيته، وصار مرضًا نفسيًّا، وأمسى كالنار المشتعلة تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، ولذا كان منطقيًّا بعد ذلك أن يهجو نفسه تارةً بقوله:

أَرَى لِيَ وَجْهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ
 

 

 

فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ
 

 

 

ويهجو أمه تارةً أخرى:

جَزَاكِ اللهُ شَرًّا مِنْ عَجُوزٍ
 

 

 

وَلَقَّاكِ الْعُقُوقَ مِنَ الْبَنِينَا
 

 

تَنَحَّيْ فَاجْلِسِي مِنَّا بَعِيدًا
 

 

 

أَرَاحَ اللَهُ مِنكِ الْعَالَمِينَا
 

 

أَغِرْبَالًا إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا
 

 

 

وَكَانُونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا
 

 

أَلَمْ أُوضِحْ لَكِ الْبَغْضَاءَ مِنِّي
 

 

 

وَلَكِنْ لَا إِخَالُكِ تَعْقِلِينَا
 

 

حَيَاتُكِ مَا عَلِمْتُ حَيَاةُ سُوءٍ
 

 

 

وَمَوْتُكِ قَدْ يَسُرُّ الصَّالِحِينَا
 

 

 

أو ربما ساقه الشغف بفن الهجاء إلى أن يجرب لذعة ناره المحرقة، ويحس بما يجده المعذبون بشعره وسلاطة لسانه.

Email