المطبخ الإماراتي وصفات احتفالية ومذاقات إنسانية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يتميز المطبخ الإماراتي بوصفاته المتوارثة فقط، ولكن أيضاً بكرم الضيافة، الذي يرافق طقوس تقديم الطعام، وخاصة في شهر رمضان المبارك، الذي يحتفي بالنكهات التراثية، وسط مجتمع متعدد الثقافات، إنه مطبخ مهيب التكوين، بطراز ثري لا يقنع بالقليل، ولا يكتفي بالكثير، ويقاس حجمه بعدد أهل البيت والضيوف والجيران والأقارب معاً، لا باتساع المائدة أو ضيقها.

إنه مطبخ يلم شمل العائلة، ويجمع الجيران، ويضم الأقارب، ويكرم الضيوف، على مائدة واحدة، تنصهر حولها مذاقات الإنسانية، ويبدأ مجلس الإفطار، وسط تسابق دِلال المقهوي في صب فناجين القهوة العربية، التي لا تخمد نارها، وهتافات «الله حيهم»، «يا مرحبا الساع».

«مرحبا الساع!»

فريق «وين ومعزوم اليوم»، اختبر مثل هذه التجربة الثرية، المليئة بالمعاني الإنسانية، حينما حل ضيفاً على مائدة إفطار الدكتور سالم الكتبي وعائلته، في مدينة العين، وسط حفاوة الاستقبال والترحاب من كافة أفراد العائلة.

بدأت الزيارة الرمضانية، بمراسم التحية والسلام على الطريقة الإماراتية والمعروفة بـ «الموايهة بالخشوم»، حيث لمس أنف الزميل خالد المهيري، سريعاً، أنف صاحب البيت، الدكتور سالم الكتبي، وأنوف أفراد عائلته مرة واثنتين أو ثلاثاً، بحد أقصى، في لمسة مسبوقة بكلمات الترحيب والمحبة، من قبيل: «مرحبا الساع»، «الله حيهم».

وهذه تفاصيل لا تزال حية من تقاليد الآباء والأجداد، بإيلاء الالتقاء وجهاً لوجه أهمية خاصة، فيما يأتي التلامس بطرفي الأنف، في حركة رشيقة وخفيفة وسريعة، ليعبر عن مزيد من التقارب والتقدير، الذي يشير إلى الأنفة والعزة. وهذا أسلوب جميل وقديم وعريق، يشترك فيه شعب الإمارات، مع الشعوب الشقيقة في منطقة الخليج العربية، ويعكس الاتصال الوثيق بقيم الأصالة العربية.

قواعد «السنع»

ومع انطلاق آذان المغرب، اقتعد الحضور الأرض حول مائدة الطعام الممتدة بشكل طولي، في داخل المجلس العامر بطيبات «الفواله»، فيما أجلس الدكتور سالم الكتبي ضيوفه من فريق «وين ومعزوم اليوم»، في المقدمة، لتناول التمر والأطعمة الخفيفة الفواله، قبل أداء الصلاة مع الأهل والأقارب وضيوف المجلس.

من الحضور البارزين في المجلس، أبناء الدكتور سالم الكتبي، أبناؤه وأصغرهم سعيد، الذي يشارك والده في إعداد فيديوهات توعوية، تتناول التقاليد والثقافة الإماراتية العامرة بالموروث، ومن ضمنها «السنع»، وهو عبارة مجموعة من القوانين والقواعد التي تحكم السلوكيات والآداب في تعاملات الأفراد مع الضيوف والأهل في ما بينهم، وهو ما يقابله في الحياة المعاصرة اليوم «الإتيكيت».

مائدة إماراتية

ويشير الدكتور سالم الكتبي، بينما هو يحث ضيوفه على تناول طعام الإفطار، المكون من الثريد الإماراتي، وذبيحة عيش ولحم بالطريقة البدوية، وفقاً لتقاليد الضيافة الإماراتية.

وبهذا، يبدأ الضيوف على التقاليد المتعلقة بمكونات المائدة الرمضانية، ويتولى الشرح صاحب المجلس، الدكتور سالم الكتبي. ويقول:

«اعتمد أهل المنطقة في الساحل، قديماً، على صيد السمك والمحار. وكان الرجال يخرجون للصيد في البراري الصحراوية، سعياً وراء الغزلان، والأرانب البرية، والزواحف. كما كشفت أعمال تنقيب حديثة بمنطقة «الصفوح 2» في دبي، آثار مذبح ضخم لأنواع من الجمال، والغزلان، والبقر الوحشي. كما استخدمت الصقور المدربة في اصطياد طائر الحبارى، الذي يمثل وجبة محببة في المائدة البدوية».

7000

حينما يتحدث الدكتور سالم الكتبي عن إرث آبائه وأجداده الإماراتيين، وتقاليدهم وعاداتهم، يأخذه الحنين، فيصف ما كان من أوابد زمان، بلغة تصويرية حية، فيضيف:

«كانت معيشة القبائل تعتمد على قطعانها من المواشي. بينما أُعتبر الجمل الثروة الأغلى، فهو وسيلة التنقل والعيش، ومصدر الحليب، والطعام، واللحم، والشعر، والجلد».

وفي نقلة تعكس تنوع نمط الحياة لدى الإماراتيين الأوائل، يشير إلى أن «الواحات الزراعية شكلت مصدراً لموارد الحياة والإعاشة، وجزءاً من البيئات التي تمحورت حولها التقاليد، وتركت أثر خيرها على الضيافة الإماراتية. وفي هذا المجال، يحضر موسم حصاد التمر الجيد من أشجار النخيل، وغيره من الفاكهة، مثل النبق».

وفي تعبير عن تزايد الاهتمام بالدراسات والبحوث العلمية، بما يتعلق بتاريخ وتقاليد الإمارات، يلفت الدكتور سالم الكتبي، إلى أن «الحفريات التاريخية، أشارت إلى أن حبوب القمح، والشعير، والذرة، كانت طعاماً أساسياً لأهل المنطقة منذ سبعة آلاف عام. وكانت هذه تُطحن وتخبز في التنور (الفرن)، الذي يُشبه تماماً التنور في يومنا هذا».

«الراس للضيف»

«الراس للضيف»، تفصيل وقيمة ترحيبية أساسية في الضيافة الإماراتية، وهي تبرز أولاً الامتدادات الثقافية لـ «السنع» الإماراتي في تقاليد المنطقة، وتفاعله مع محيطه الحيوي. وفي هذا، يشرح الدكتور سالم الكتبي، بما يتعلق بتقاليد تقديم «الذبيحة» مع الأرز للضيف في الإمارات:

«من أصول تقديم الذبيحة، أن يكون الرأس موجوداً. ومن العيب تقديمها بدون رأس، حيث يبادر الضيف بفتح الرأس أثناء تناول الطعام، في دعوة لضيوفه بمد أيديهم وتناوله».

ويضيف الكتبي: «إذا لم يقدم الرأس، على المائدة، ولم يبدر من المضيف ما يشير إلى تقديمه لهم، فإنه يدخل في خانة التقصير. وهذا ما لا يرضاه أي مضيف لنفسه».

ويقول: «بالعادة، ينتظر من المضيف أن يقوم بتقطيع اللحم، بنفسه، وبيده، وتقديمه للضيوف. ومن العادات كذلك، أنه إذا دخل رجل على قوم يأكلون، يقول: «هنهم»، أي هنيئاً. فيجيبه القوم: «وانت منهم». وهي بمثابة دعوة منهم له بالانضمام إليهم في تناول الطعام معهم».

تناغم مجتمعي

يستمد «المطبخ» في أي بلد خصوصيته من الثقافة المحلية، مهما احتوى مدخلات خارجية. إضافة إلى أن المدخلات، مثل التوابل، تأخذ في كل بلد خصوصية ما، تستند إلى الكميات، والكيفية التي يتم استخدامها بها. وبما يتعلق بمفهوم المطبخ الإماراتي المعاصر، يقول الدكتور سالم الكتبي:

«برغم النكهات والتقنيات العصرية الجديدة، إلا أن المطبخ الإماراتي، لا يزال يحافظ على طابعه التقليدي في استخدام مزيج من التوابل العطرية، مثل القرفة، والزعفران، والكركم، وجوزة الطيب، إلى جانب الفواكه المجفّفة، مثل اللوز، والفستق، والأعشاب الطازجة، مثل الكزبرة والنعناع والزعتر».

ويضيف: «يبرز المطبخ الإماراتي الحديث خليطاً من الثقافات، التي توافدت على دولة الإمارات. ومن اللافت أن هذه المدخلات، تم هضمها وتكييفها مع الحاجات والتقاليد والذوق المحلي. كما أن ذلك يؤشر من ناحية أخرى، إلى الخاصية الإماراتية في صنع التناغم والتعايش مع شعوب العالم».

ويلفت الدكتور سالم إلى أن المطبخ الإماراتي مشرع الأبواب والنوافذ، يختبر تجارب الطعام العالمية، ويوظفها على مائدته بطريقته. لذا، ليس غريباً أن تحضر عليها المقبّلات التقليدية، كالحمص والتبّولة، التي تعود إلى مطبخ بلاد الشام، والبرياني الهندي».

تقاليد متوارثة

بطبيعة الحل، العبادة أحد وجوه الشهر الفضيل الرئيسة، لذا، فإن المائدة الرمضانية الإماراتية تأخذ ذلك بعين الاعتبار، وتفرد للعبادة مساحة خاصة، حيث أداء صلاة التراويح، الصلاة التي تحضر في رمضان.

وهنا، يقول الدكتور سالم الكتبي:

«بعد رفع طعام الإفطار وأداء صلاة التراويح، يحين موعد القهوة و«الفواله»، التي هي عبارة عن الحلويات والتمر والفاكهة، وتترافق مع تقديم القهوة للضيف، وسابقاً إذا جاء الضيف قاصداً أهل البيت لحاجة ما، تراه يمسك بفنجان القهوة، ولا يشربه إلا بعد أن يقول حاجته وتُلبى له. وإن لم ينل ما جاء من أجله، يمتنع عن شرب القهوة.

وذلك نادراً ما يحدث، فالأغلب أنه يجاب طلب الضيف بكلمة «تم»، أو «ياك ما طلبت»، فيشرب قهوته، ويتحدثون في التفاصيل بعد أخذ «العلوم»، التي تعني السؤال عن الحال والأحوال. وهذه تبدأ، عادة، بسؤال المضيف للضيف بجملة «يحي علومك» أو «شي لعلوم»، فيجيب الضيف: «تسلم تدوم».

طقوس القهوة

وحول سنة تقديم القهوة للضيف، يقول الدكتور سالم الكتبي: «يبدأ تقديمها أصغر أفراد العائلة للضيف أولاً.. ثم للجالسين من على يمينه.. أو للجالسين في المجلس، إن لم يكن هناك ضيوف، وأيضاً من على اليمين.

ويضيف: «لصب القهوة طقوس معينة، تبدأ بإمساك «الدله» باليد اليسرى، والفناجين باليد اليمنى، كما يجب الوقوف بشكل مستقيم، والانحناء عند تقديم الفنجان للضيف، مع ذكر كلمة تدل على العطاء، كأن يقال «تفضل»، أو أي لفظ معتاد عليه أو متداول بين الناس من الكلمات المتعارف عليها، ليرد الضيف «تسلم». ثم الاعتدال بعد صب القهوة، والانحناء مرة ثانية عند الفنجان أو تسلمه من الضيف، حتى يقوم في المرة الثالثة بهز الفنجان، وهو دليل على الانتهاء من شرب القهوة.

وكمدخل للحديث عن طريقة الإعداد، أنشد أبيات شعرية على لسان القهوة، التي تلوم من يعدها على أحسن حال، إذا لم يختر أفضل أنواع البن، وتقول في مطالعها:

«أنـا لـومـــي عـلـى مـــن قــلانـــي

‏لاعـدّل الـجـلـيـه ولا نـقّـد الـشـيـن

‏صـبـوا سريبـي والحـثـل ما أدانـي»

‏ويتابع الدكتور سالم: «للحصول على قوه ذات نكهة محببة وأصيلة، لا بد أن يتم تنظيف القهوة، وإزالة الغبار والشوائب منها، ثم يتم وضعها في «التاوة»، وتقلب القهوة بــ «المحماس»، وبعدها تقلى، وبعضهم يفضلونها نيئة. والأكثرية باللون الأحمر، ولدى آخرين يفضلونها باللون الأسود، وبعدها تدق بــ «المنحاز»، وهو الإناء المصنوع من الحديد أو النحاس، و«الرشاد» وهو المدق المصنوع من الحديد. حتى تنعّم القهوة، وتكون بذلك جاهزة للطبخ».

ختامها عود

ويوضح الدكتور سالم الكتبي: «من سنة تقديم القهوة للضيف، أنها تقدم له ثلاث مرات، كأمر واجب.. الأولى عند قدومه، والثانية بعد تقديم الفواكه، والثالثة بعد وجبة الطعام، التي يتم بها إكرام الضيف، سواء أكانت غداء أم عشاء.. وليس معنى ذلك أنها لا تقدم في غير تلك الأوقات، بل تقدم بعدد غير محدود من المرات، وأقلها تلك الثلاث، حتى وقتنا هذا.

ويعد تقديم القهوة العربية التقليدية، من الطقوس الاجتماعية في دولة الإمارات. وعادة ما تكون القهوة المصنوعة محلياً، مطعّمة بالهال والزعفران، وتقدم في فناجين القهوة العربية الصغيرة، غير المزوّدة بمقبض».

وفي نهاية الجلسة، ودّع الدكتور سالم وعائلته ضيوف برنامج «وين معزوم اليوم»، وفقاً للتقاليد، بالعود والبخور، الذي يتميز بالرائحة الزكية، إلى جانب رش العطور ودهن العود.

Email