المائدة الرمضانية في العراق.. وصفات سومرية عمرها 3900 عام

ت + ت - الحجم الطبيعي

«تفخر المائدة العراقية الرمضانية بإرثها العريق، وموروثها التاريخي من وصفات الطعام التقليدية، التي قد ينسبها البعض إلى ثقافة المطبخ العثماني، كونه الأكثر انتشاراً بين الدول العربية، والتي بحسب أجوائها وموقعها الجغرافي أضافت بعض التعديلات على تلك الوصفات لتحمل هويتها الإثنية والعرقية، لكن هذا لم يمنع العراق من أن يباهي العالم بإرثه ومطبخه الضارب في القدم، الذي ما زلت وصفاته السومرية تثري ليالي رمضان وموائد الأمسيات العامرة بالمحبة والتمسك بجذور بلاد ما بين النهرين». 



 

 

 



300 صنف

بهذه الكلمات رحبت الدكتورة نبأ العبيدي وأسرتها بفريق برنامج «وين معزوم اليوم»، على مائدة الإفطار الرمضاني المكونة من أشهر المأكولات التي لا تغيب عن أجواء الشهر الفضيل، وباتت من التقاليد المتوارثة.

المطبخ العراقي عريق، وأصيل، وله جذور تاريخية تسبق نشأة المطبخ العثماني بقرون. وتؤكد الدكتورة نبأ أن علماء الآثار اكتشفوا من خلال تنقيبات في موقع «جرمو» في الشمال الشرقي من البلاد، قاموساً ثنائي اللغة (أكدي - سومري) نُقش بالكتابة المسمارية على 24 لوحاً حجرياً عام 1900 ق.م.

يتضمن هذا القاموس قائمة بالمصطلحات بهاتين اللغتين العراقيتين القديمتين، وتشمل هذه القائمة ما يزيد على ثمانمئة صنف متنوع من المأكولات والمشروبات، منها عشرون صنفاً من الأجبان، وأكثر من مئة نوع من الشوربات، وما يزيد على ثلاثمئة صنف من الخبز، وحوالي 24 وصفة لطبخ اليخنات باستخدام اللحوم والخضار، مع تعزيز نكهتها عن طريق البصل والثوم والتوابل والأعشاب مثل الكمون والكزبرة والنعناع. ونحن نعرف اليوم أن اليخنات حافظت على مكانتها واحدةً من أعمدة المطبخ العراقي المعاصر، ما يشير إلى استمرارية التراث الحضاري الطويل لهذا البلد العربي العريق.



الحديقة المحشية

وبما يتعلق بطبق «الدولمة» المهيب، الذي يتوسط المائدة بعد أن يتم قلبه طنجرته أمام الضيوف، ويشار إليه في العادة بمسميات مختلفة في مصر والسودان وبلاد الشام، ومنها «المحشي»، تقول الدكتورة نبأ: «أصل كلمة الدولمة تركي، وهي كلمة تعني الردم أو ما تم حشوه. وقد اقترنت الكلمة بأحد أشهر قصور الدولة العثمانية، وهو قصر «دولمة بهجة»، ويقصد بها «الحديقة المحشية»، حيث كانت الأرض عبارة عن جزء من الساحل تم ردمه وتحويله إلى حديقة سلطانية، قبل أن يتم بناء القصر على أرض تلك الحديقة، ليصبح في منتصف القرن الثامن عشر مركزاً لحكم السلطنة.



دولمة بغداد

وتضيف الدكتورة نبأ: «الدولمة» أدخل عليها العراقيون بعض التعديلات والتطويرات، منها زيادة اللحم المفروم، وغزارة السمن، ولحم ضلع الخروف، أو الزند في قعر القدر، لتكون عراقية في محتواها. وقد شاع طبخها في دول عدة، وهي تتألف من أنواع من أوراق السلق والخضراوات التي تفرغ من محتواها ليتم حشوها بالأرز واللحم والبصل والطماطم المفرومة، وتضاف لها البهارات الخاصة بها.

وتشير الدكتورة نبأ إلى أن مدناً عراقية عديدة تشتهر بأكلة الدولمة، ولكل منها لمستها وإضافتها الخاصة، رغم الحفاظ على الفكرة العامة، فتجد الدولمة الكركوكية، أو ما تسمى التركمانية، والدولمة الكوردية، والموصلية، والبغدادية. وهناك اعتقاد شائع لدى عشاق هذه الأكلة يفيد بأن من يحب هذه الأكلة، فإنه بالضرورة يحب زوجته، وذلك لأن النساء يستطبن هذه الأكلة أكثر مما يفعل من الرجال، ما يعني أن توافق الأذواق دليل محبة.



التشريب السومري

ومن جانب آخر، ما زال طبق «التشريب» يحافظ على مكانته في المائدة العراقية طوال العام، لكنه يحظى بحفاوة بالغة في شهر رمضان، حيث يعتبر طبقاً رئيساً يقبل عليه الشعب العراقي لمذاقه الأصيل والمعتق بالبهارات الشعبية ومكوناته الغنية بالنكهات.

وتقول الدكتورة نبأ، وهي تسكب بعضاً من محتويات هذا الطبق أمام فريق الـ«البيان»: «التشريب» يعتبر من أكثر الوجبات المحببة في العصر السومري بالعراق، وكان يُصنع بتقطيع رغيف الخبز، ومن ثم يُثرد في صحن ليتشرب بمرق اللحم، ثم يوضع فوقه اللحم والبصل والحمص المسلوق. وقد عرف السومريون أكثر من 35 نوعاً من المرق، حيث كتبوا وصفاتها على ألواح طينية لتكون أول دليل طبخ في التاريخ، وما زالت هذه الأكلات تُطبخ وتُؤكل بنفس الطريقة والكيفية التي عرفها الناس خلال العصر السومري في العراق.



طعام الرسول

وتضيف الدكتورة نبأ: التشريب أو الثريد، كما يعرف في الإمارات ودول الخليج العربي، من أحب الطعام إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث كان من الأطباق الرائجة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وتناقلته الأجيال إلى يومنا هذا. وهناك حديث نبوي شريف جاء فيه اسم الثريد، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «كَمَلَ مِن الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِن النِّسَاءِ إِلَّا: آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالبركة في الثريد والسحور‏، ‏حيث قال: «السحور بركة والثريد بركة والجماعة بركة»، إذاً من هذه الأحاديث نعرف أنّ الثريد طعام فيه بركة، وكان محبّباً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته.



الكبة الموصلية

وأوضحت الدكتورة نبأ، خلال تقديمها أصنافاً متعددة من طبق «الكبة»، التي جاءت بأشكال وأحجام متعددة، أن أشهر أنواع «الكبة» التي يقبل عليها العراقيون خلال شهر رمضان هي وصفة «الكبة الموصلية»، حيث يعتقد أن مدينة الموصل أول مكان عرف أكلة الكبة. أما الجذور التاريخية للأكلة، فتعود إلى العصر الآشوري في العراق، حيث كانت تُعرف باللغة الأكدية باسم «كبتو»، وتعني الشيء المدور، وهذا يوضح أن شكلها كان مدوراً مثل الكبة الحالية. وأشهر ذكر للكبة في تاريخها، كان في مأدبة الملك آشور ناصر بال التاريخية، حيث تم ذكر مقاديرها وطريقة تحضيرها بالتفصيل الدقيق، وهي نفس الطريقة التي تستعمل في تحضريها بالوقت الحالي.



«شربات الزبيب»

وبما يتعلق بالمشروبات الرمضانية في العراق توضح الدكتورة نبأ: «ليس هناك إفطار رمضاني بدون شراب اللبن و«شربات الزبيب»، الذي يقدم بشكل حصري في العراق، فبحلول عصر كل يوم يتزاحم العراقيون أمام محلات بيع شراب الزبيب في بغداد، لشراء كيس أو قنينة من هذا الشراب الذي يقبل عليه الصائمون، فهو عبارة عن عنب مجفف يتمتع بالعديد من الفوائد لجسم الإنسان، فهو يُخلصه من مشكلة فقر الدم في المقام الأوّل، ويقي الصدر من العديد من الأمراض التي قد تصيبه كالالتهابات والحساسية، وهو منشط جيد للبنكرياس والكبد، وعادة ما يُستخدم الزبيب الأسود في إعداد هذا الشراب مع إمكانية إعداده من النوع الأبيض.



الشاي المخدر

وخلال جلسة الشاي العراقي المعروف بـ«المخدر»، وتعني إعداد الشاي على نار هادئة حتى «يَخدَر»، أوضحت الدكتورة نبأ أنه يقدم بعد صلاة التراويح مع أشهر الحلويات العراقية، إذ إن الشاي بالنسبة للعراقيّين مهمّ للغاية، بل هو بالنسبة لهم شراب كل الأوقات، خصوصاً بعد تناول الطعام.

ويحضر الشاي وفق الطريقة العراقية بواسطة ملء إبريق بالماء الساخن، ثم وضعه على النار، ويضاف إليه الهيل المطحون والقرنفل المطحون، ويترك حتى يغلي. وعند الغليان تخفض شدة النار، ويضاف الشاي ويترك ليغلي مدة دقيقة، ثم تطفأ النار، ويغطى الشاي ويترك لمدة دقيقتين، قبل أن يسكب في الكؤوس ويقدم ساخناً.

من جانب آخر، لا يستسيغ العراقيّون شرب الشاي سوى في «الاستكانات»، (جمع «استكان»)، وهو قدح صغير من الزجاج له شكل معروف، ومعه صحن صغير مخصّص له وملعقة صغيرة. ويُشاع أنّ كلمة «استكان» مشتقة من كلمة «East Tea» التي عرفها العراقيّون من الجنود الإنجليز لدى احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى، أي أنها في الأصل كلمة إنجليزية، تعني الشاي الشرقي.



لعبة المحيبس

وبما يتعلق بأشهر فقرات السمر والجلسات الرمضانية، تؤكد الدكتورة نبأ أن لعبة المحيبس (الخاتم) التراثية تعتبر الأشهر خلال أمسيات رمضان، حيث يجتمع عليها الشباب والأهل في العراق، وتستمر في غالب الأحيان حتى موعد السحور، ويتم لعبها في المقاهي الشعبية أو في الشوارع. وتنتهي اللعبة، التي تقوم على مبدأ الاحتفاظ بالخاتم إلى حد الوصول إلى مجموعة من النقاط يتم تحديدها مسبقاً، بتناول الحلويات العراقية، التي يدفع ثمنها الفريق الخاسر.

Email