لعل من الممتع أن يعود الإنسان بين الحين والآخر إلى ذكرياته ويحن إلى من فقدهم أو إلى ماض مره حلو، وحلوه لا يوصف، أن أول من افتقده في مثل هذه الأيام .. أمي.. رغم مرور ثلاثة عقود تقريباً على رحيلها، فحب الأم يختلف عن كل أنواع الحب الإنساني، وليس له معادل حياتي.

في المقارنة بين أيام رمضان اليوم وقبل أربعة عقود اختلاف شديد، في التوجهات، وطبيعة المجتمعات، وكذلك المعطيات، عصرنا اليوم يحدد رمضان بالخيم الرمضانية التي لا علاقة لها بالشهر، بينما ينشغل الناس من بعد الإفطار حتى الفجر بمتابعة المسلسلات في السباق الإلكتروني بين الفضائيات، ومبارياتها في كسب المشاهد لكسب مزيد من الإعلانات التجارية.

ولا أعتقد أن ميزة تضاف لأيام هذا الشهر الفضيل هذه الأيام سوى الكثرة من أصناف الطعام على مائدة الإفطار حتى التخمة، ولا أحد يتذكر الفقير، والشعور بما يعانيه من حرمان للتقارب في الشعور مع هذا الإنسان الذي حرم من أشياء كثيرة وفرها الله لنا.

لم يكن رمضان أيام زمان محشواً بالمسلسلات، فالتلفزيون حتى بعد انتشاره كان محدوداً بحدود بث المحطات الأرضية، لذا كان رمضان أكثر جمعاً لأبناء العائلة والأصدقاء والخلان والجيران وأبناء الفريج وكان لكل منطقة ألعابها الجماعية التي تجمع أطرافاً لا تتاح الفرصة لها للتجمع في الأيام الاعتيادية، كانت عادات رمضان تبرز من اليوم الأول من الشهر الفضيل بظهور الفوانيس.

ومدفع الإفطار الذي كنا نتجمع حوله قبل دقائق من وقت الإفطار، ولينطلق بعد ذلك عشرات الأولاد في صرخة واحدة لإعلان ساعة الإفطار، فكانت الليالي تنشط المقاهي والزيارات التي تستمر حتى ظهور المسحراتي أو ما نسميه في العراق (أبو طبيلة).

ليلة العيد .. ليلة لا تنسى..

النساء بدأن بصنع المعجنات (الكليجة) التي ترسل إلى الأفران لشيها.

ثم تبدأ عملية التنظيف من داخل البيوت لتلتقي النسوة خارج صحن الدار كل في باب بيتها ليبدأ تنظيفاً آخر للفريج بكامله وتستمر حالة النظافة حتى أذان الفجر وبدء صلاة العيد..

مدينة الألعاب التقليدية وأناشيدها وطقوسها هدف كل طفل.. وكنا ننتقل لها على عربة خشبية صغيرة يجرها بغل أو حصان عجوز، كان الأطفال يحرصون على شراء كسوة العيد قبل أيام من مجيئه وكل طفل كان يعلق ملابسة قرب رأسه وبعضنا كان يحتضن الحذاء عند النوم فما زال جديداً ونظيفاً.

وكان محرم علينا استعمال هذه الملابس قبل العيد، وإلا يكون العيد قد خرب وهرب كما كانوا يثقفون ذاكرتنا، كان العيد بسيطاً إلا أنه أكثر عمقاً من أعياد اليوم حيث نظل نعاني من الوحدة والغربة، بينما كان اندماج المجتمع وتعاونه وتكاتفه طقسا من طقوس العيد وصفة يتحلى بها الناس تيمناً بمثل هذه الأيام المقدسة.

abdulelah_q@hotmail.com