الكثيرون لا يعرفون النهام جمعة الفيروز بوسماح. بوسماح آخر وأشهر نهام ودعنا قبل خمسة عشر عاماً.
والنهام، هو مطرب السفينة عند إبحارها في البحث عن اللؤلؤ، ولكن مهامه لا تقتصر على الغناء، بل هو الذي يحفز البحارة، ويشد عزائمهم، ويصبرهم على الابتعاد عن الأهل والأحباب، وهو الذي يذكرهم بالحكم، والأمثال، والقيم.
كنت ألتقي بالنهام بوسماح في بداية الثمانينات في جمعية الشارقة للفنون الشعبية، ومن خلال لقائي به كتبت عنه يومها في جريدة «الخليج» داعياً إلى تسجيل ذاكرته الغنية جداً، لما كان يحفظه من نهم، وأشعار، وحكايات، حتى قلت في تقييمه إنه مكتبة تراثية متنقلة، قابلة للفقدان في أية لحظة، لأنه إنسان، وكان قد تجاوز عقده السادس، وأتعبه البحر وأسفاره وعواصفه.
لقد ذكرته بعد أن وجدت قصاصة قديمة في أوراقي تذكرني بموعد لقائه، ولا تسعفني ذاكرتي الآن، متى كان لقائي الأخير به، إلا أنني أذكر أنني قصرت في عدم تسجيل صوته في حينه، وكان طيب القلب، كريماً، يستجيب للحوار وللحديث، ويرحب بالضيف. هؤلاء الرجال طحنتهم عواصف البحر، فأصبحوا والبحر صنوان، فهم كرماء مثله، يملكون عمقه، وأسراره، وحكاياته.
لا زلت أذكر حكايات عديدة للنهام بوسماح، ولكنني أيضاً لم أدونها، والمفروض أن أجد وقتاً كافياً للتأمل واستذكار بعض الحكايات على الأقل، فالقليل منها غني، وغريب، وفيها من المفاجآت ما لم يستطع إنسان أن يتوقعه.
أعد الباحث عبدالعزيز المسلم كتاباً عنه يوم تكريمه، ولا أدري إن كان العزيز المسلم قد استكمل مشروع تسجيل أحاديث ونهمات بوسماح، غير أن الكتاب هو جزء من الاعتراف بأهمية بوسماح، وتأكيد لأهمية التراث وجمعه وتصنيفه، والمسلم أهل لذلك كما أعرفه عن كثب وقرب.
قال د. يوسف عايدابي عنه إنه ذاكرة بلا بديل تمتد من سواحل إفريقية ، هندية ، عمانية ، إماراتية ، سعودية، عربية .... الخ.
وقال عنه الفنان إبراهيم جمعة: إنه أسطورة وثمرة غذائنا الروحي في ميدان الغناء البحري وحياة البحر.
أما الفنان أحمد النابودة فيقول إنه أسهم في إظهار فرق العيالة وتأمين الاستمرارية لها.
البحر مدرسة بوسماح التي تعلم منها الفن، ومنها انطلق إلى بحور العالم الأخرى، ويملأ سماواتها نهمات لا يمكن أن توصف إلا بالصدق، والأصالة، والوفاء للبحر الذي لم يتعرف جيل اليوم إليه كما ينبغي.
كان يمتلك كنزاً من المواويل البحرية، ثم أصبح نوخذة، لكن مهنة البحر قد أكل الدهر عليها وشرب، فترجل كما ترجل غيره، واكتفى بتأسيس جمعية الشارقة للفنون الشعبية.. عاش في الظل.. ومات بهدوء في العشرين من أبريل عام 1995، وبقي أن ندعو مرة أخرى إلى ضرورة تسجيل حوارات الشواب قبل أن نفقدهم.
