رغم أن كل ما يكتبه الكتاب ويفعله المفكرون لم يغير شيئاً على أرض الواقع، إلا أن معظم السلطات تقف في وجه هؤلاء المبدعين لتحد من حرياتهم، أو تعاقبهم، أو حتى تسجنهم وتطاردهم أينما كانوا. انهم ثقلاء على المجتمع بما يفعلونه من كشف المستور من العورات، وقد سخر منهم الدكتور علي الوردي بكتابه الشهير وعاظ السلاطين. ولكن علي الوردي نفسه لم ينج ولم يستطع تغيير السلطة العراقية مثلاً.

وإزاء هذه العلاقة المتوترة جدلياً فإن معظم المبدعين الذين لا ينافقون سلطات بلدهم يكون مكانهم الإهمال، والتهميش، وإذا ما تعرضوا لحادث أو لمرض، فإنهم وحدهم يتحملون تبعات المرض والحادث فيزداد فقرهم وعوزهم وحاجتهم، ويزداد تهميشهم، والسعيد منهم من يجد سريراً في مستشفى عام يلفظ أنفاسه عليه، ولنا أمثلة عديدة عن كبار المبدعين الذين ماتوا بحسرة القرش، وهم يعانون من المرض والفاقة والغربة والتشرد، لا نريد أن نستعيدهم، إنما نذكر أمثلة حية ما زالت تتنفس فوق سرير الموت.

على سبيل المثال لا الحصر، يعاني فاروق عبد القادر من التهميش والإهمال وهو راقد في مستشفى رخيص يعاني من مرض عضال، ومما يقال انه يلفظ أنفاسه الأخيرة إن لم يكن قد لفظها بين كتابة هذه السطور ونشرها.

لم يهتم أحد بما يعانيه فاروق عبد القادر، وهو أحد أهم النقاد المبدعين في هذا العصر، ولعله من النادرين جداً الذين وضع حد القلم وحد السيف في مستوى واحد على رقبته وراح يجول ويصول في عالم الكتابة حراً لا يرضخ للسائد ولا يهادن أشباح الظلام، ويقاوم من خلال ما يحمله من فكر وقلم ساخر. من الغريب أن فاروق عبد القادر ليس له أقرباء، ولا زوجه ولا أولاد فظل وحيداً على فراش المرض ينتظر ساعته دون مواساة من أحد إلا من أصدقاء قليلين لم يقصروا بالواجب، ولكنه بالضرورة سيكون محدوداً بحدود ما يملك الأصدقاء من وقت ومن مال قد لا يرتقي لحل الإشكالات الصحية.

سألت عنه وعن أسباب عوزه وأنا أعرف أنه لا يعمل ويعتاش من كتاباته التي تنشر له بالصحف هنا وهناك، لكن سؤالي كان مبنياً على فوزه في دورة سابقة بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، إلا أن أصدقاء قالوا انه لم يحتفظ بالمكافأة السخية ووزعها على المحتاجين ويقال انه لم يخيب سائلاً ولا محتاجاً حتى لم يعد لديه من المكافأة شيئاً إلا المعاش التقاعدي الذي لا يكفيه خبزاً.

فاروق عبد القادر يموت سريرياً، وهو مهمش حتى في موته، ولعلي أقول انه سيموت مثل ميتة السياب غريباً ومريضاً ومنبوذاً في المستشفى الأميري على ساحل الخليج الذي كتب عنه أجمل القصائد، لا أمل في سيادة العدالة المطلقة، وسيظل المبدع مبتلى.