تنتمي قصة «رجل في الأربعين» الى مفهوم الكتابة الفلسفية التي تتخذ من الرمز مدخلاً لفهم الأحداث والوقائع، ويعتقد القارئ للوهلة الأولى أنها قصة تهكمية لا تحمل عمقاً معرفياً لطالما اتسم به الأدب الياباني طيلة عهود، ولكن وقفة متأنية مع تفاصيل هذه القصة - الرواية ستجعلها أكثر جاذبية مما هي عليه لاحتوائها على عناصر فلسفية تحتاج على تدقيق أطول وقراءة أعمق.

ولد الكاتب الياباني شوساكو إندو في طوكيو 1923 ودرس الأدب الفرنسي في جامعة (كيو) ثم سافر بعد تخرجه إلى فرنسا ليكمل دراساته في ليون، ويعتبر من أبرز الكتاب في اليابان وقد حصل على جوائز أدبية رفيعة منها جائزة (أكوتاجوا) وجائزة (مينيشي) الثقافية و(شينشو) و(تانيزاكي) وجائزة (نوما) عن روايته (الساموراي) .كما ترجمت أعماله إلى اللغة الانجليزية منها روايات (الصمت)، (البحر والسم) و(الساموراي) ومجموعته القصصية (الرحلة العجيبة).

حيث أثارت جميع الروايات اهتماماً كبيراً في اليابان وأوروبا وأميركا وتغلغلت إلى أعماق المجتمع الياباني وفيها يعرض إندو رواية جديدة للعلاقات الانسانية ومدى تأثير تصرفات الانسان على المحيطين به. وقد توفي إندو عام 1996 بعدما برع في تقديم النمط الفلسفي الهادئ للقصة المعاصرة، وكان نموذجها مجموعته القصصية (الرحلة العجيبة) التي قدم فيها معارضة تهكمية للفيلم الأميركي (رحلة مثيرة) الذي أنتج عام 1966.

تلقي قصة رواية (رجل في الأربعين) الضوء على حياة سوجورو الأربعيني الذي يمكث في المستشفى منذ ثلاث سنوات بسبب خلل في رئتيه، حيث أجريت له عمليتان باءتا بالفشل وهو ينتظر الجراحة الثالثة التي قررها الأطباء استناداً إلى صورة أشعة إكس حيث إن هذه الجراحة عمل لابد منه لانقاذ حياته.

قبل إسبوعين من إجراء العملية طلب سوجورو من زوجته أن تبتاع له طيراً يدعى (المينة) وهو من أغلى أنواع الطيور وبالرغم من إنفاق زوجته كل ما لديهم من مال بسبب تكاليف المستشفى، كان الطير شديد السواد مع خطوط صفراء زاهية تزين رقبته، وجثم ابنه البالغ من العمر خمسة أعوام في انفعال يراقب هذا الطير الغريب.

لم يعد المريض الأربعيني سوجورو الذي كان يقضي معظم وقته وحيداً في فراشه ودائماً ما يتناول عشاءه بمفرده فقد أصبح له صديق في الغرفة، هو هذا الطير الذي كانت زوجة سوجورو تعد له الطعام الخاص به في المطبخ المخصص للمرضى وله طريقة خاصة لإطعامه ليتمكن من تقليد بضع كلمات فيما بعد .

كان حصول سوجورو على الطير نزوة، بسبب ثمنه الباهظ غير أنه كان بحاجة لرفيق في الغرفة يحكي له أسراره، لأن رؤية الناس أصبحت تؤلمه، وخاصة بعد جراحته الثانية وما تبعها من استئصال رئة كاملة حيث تعقدت الأمور والتصقت أغشية الجنب بشدة بجدران صدره، والخطر الأعظم الذي تفرضه الجراحة القادمة هو النزيف المستفحل الذي يمكن أن يحدث.

تتوالى زيارات زوجة سوجورو وابنه الذي يحرص في كل مرة على تعليم الطائر عبارات التحية، أما سوجورو فكان يزداد سوءاً بسبب عمليات المنظار والاختبارات التي تجرى له وذات زيارة تخبره زوجته برغبة ابنة عمتها ياسوكو في زيارته مع زوجها الذي يعمل مسؤولاً في وكالة التخطيط الاقتصادي، لم يكن سوجورو يرغب بهذه الزيارة لكنه يمتثل لرأي زوجته وبقدوم ياسوكو برفقة زوجها وهي ترتدي كيمونو أبيض.

وبينما الجميع يتناولون أطراف الحديث كان سوجورو في عالم آخر حيث يعود بذاكرته إلى عدة سنوات عندما كانت زوجته في ذات المستشفى في جناح الولادة لمدة أسبوعين مع ابنهما في الحاضنة لولادته المبكرة ولم تكن ياسوكو ابنة عمة زوجته قد تزوجت بعد وبوجودها في المستشفى بشكل يومي تقريباً وذهابها مع سوجورو إلى منزله لترتيب البيت ولتطهو له بعض الطعام نشأت بينهما علاقة بدون مبررات فتكتشف ياسوكو بأنها حامل، فيصطحبها سوجورو إلى عيادة صغيرة لإجهاضها بعدما أخبر الطبيب أنها زوجته.

ومثل أي كاثوليكي كان يدرك بأن الاجهاض محرم، لكن حياته أصبحت مهددة وخاصة إذا علمت زوجته وعائلته بالأمر، وفي ليلة زفاف ياسوكو كانت زوجته ترمقه بنظرات خاصة وبالرغم من ابتسامتها المعتادة، أحس سوجورو بأنها على علم بالذي حصل بينهما. قبل الجراحة بثلاثة أيام وليلة عشية عيد الميلاد كان سوجورو يسمع من غرفته أصوات جوقة من المرتلات في مدرسة التمريض، كان هناك صوت في أعماقه يصيح بعدم رغبته بالموت يريد الحياة إنه لم يعرف معنى الحياة بعد وهذا ما كان يسمعه الطائر يومياً من سوجورو .

يستعد سوجورو لإجراء العملية، حلقوا له شعر صدره وأُعطي الحقن اللازمة وحبوب التهدئة فطلب من زوجته إحضار الطائر من الشرفة لتوديعه وأخبر الطير بأنه الوحيد الذي يعرف ما لم يستطع الاعتراف به للقس في جلسة الاعتراف. استغرقت العملية ست ساعات كاملة ليفيق منها بصعوبة مع آلام مبرحة في الصدر وارتفاع شديد بالحرارة لمدة خمسة أيام. أما في الأسبوع الثاني اختفى الدم وبدأت الحرارة بالانخفاض تدريجياً لقد نجا بأعجوبة كان عملاً بطولياً خطيراً أشبه بالمشي فوق حبل مشدود لقد توقف قلبه في منتصف العملية لثوان هذا ما قاله الطبيب الجراح، ولابد أن له أعمالاً خيرة نجته من الموت.

وبعد شهر أصبح بمقدوره الوقوف باستخدام الحبل. وبشكل مفاجئ ذات يوم تساءل عن الطير فتخبره زوجته بأنه مات فلم يكن هناك وقت للممرضات ولا لزوجته لإطعامه وفي ليلة شديدة البرودة نسياه في الشرفة طوال الليل.

لم يستطع سوجورو أن يلوم زوجته فلم يكن لديها الوقت لتقضيه مع الطائر أما القفص فما زال بالشرفة، يخرج سوجورو بصعوبة ليراه كانت السماء صافية والشمس الشاحبة تدخل إلى القفص الخالي الذي تنبعث منه رائحة إنها رائحة الطائر ولكن رائحة حياة سوجورو كانت تشكل جزءاً منها، رائحة الكلمات التي أسر بها لهذا المخلوق الحزين الذي راقب أعماله وسمع أسراره بعطف دون إدانة . وبما أن زوجته قد شعرت بأن هذا الطائر قد احتل مكان سوجورو فقد دفنته في حديقة المنزل.