في مقهى وسط مدريد ثمة طاولة محجوزة على الدوام، وقد وضعت عليها لافتة تقول «رجاء عدم الجلوس.. إن السيد همنغواي قادم».إنها طاولة إرنست همنغواي التي شغلها مراراً طيلة وجوده في إسبانيا، وثمة أماكن أخرى تحمل اسمه أو ذكرياته تحولت إلى قيمة وجدانية وثقافية سياحية يزورها الناس كما هو حال بيته في كوبا الذي أصبح متحفاً ثقافياً يعني الكثير لعشاق أبرز عمالقة الأدب في القرن العشرين.
ولد إرنست كلارنس أرموندز همنغواي في 21 يوليو 1899 في مدينة «أوك بارك» بولاية «ايلينوي» الأميركية، وهو واحد من ستة أبناء للدكتور كلارنس همنغواي، وبدأ بنشر أول تجاربه القصصية في المجلة المدرسية التي كانت تصدر باسم «ترابيز»، ولكنه لم يلتحق بالجامعة، بل فضل العمل كمراسل صحفي ناشئ في صحيفة تدعى «كانساس سيتي ستار». ثم التحق بكتيبة طبية خلال الحرب العالمية الأولى وأصيب بشظية في إيطاليا أقعدته لستة أشهر في بلدته وتعرض لأزمة شديدة عام 1938 عندما انتحر والده بعد إصابته بمرض عضال، وأسس منظمة سرية لمعاداة الفاشية انتسب إليها عدد كبير من شرائح المجتمع. حرص همنغواي خلال تجواله حول العالم أن يكتب يومياً سبعمئة كلمة واختار العيش في منزل كلاسيكي بكوبا منذ العام 1940، وأمضى حياته صياداً للأسماك أو ضيفاً دائماً في حانة مجاورة لبيته.
تزوج همنغواي أربع مرات وأنجب ثلاثة أطفال وكانت حياته الزوجية مضطربة بسبب سفره الدائم وحبه للترحال فمن كوبا إلى اسبانيا إلى فرنسا مروراً بأفريقيا وصولاً إلى الصين، مرة مراسلاً صحفياً ومرات مغامراً عاشقاً للاكتشافات. كتب همنغواي (25) كتاباً منها (21) صدرت في حياته، وأربعة صدرت بعد وفاته، فقد نشر كتابه الأول بعنوان «ثلاث قصص وعشر قصائد» عام 1923، وكان يعيد كتابة العمل مرتين وخاصة رائعته «وداعاً للسلاح» التي كتبها عام 1929، والتي أعاد نشرها عام 1938 وكذلك «لمن تقرع الأجراس» عام 1940 وعام 1942.
في حين اعتبر النقاد أن روايته «غداً تشرق الشمس» هي التي وضعته على أول درجات سلم الكتابة الإبداعية ومن كتبه الأخرى «سيول الربيع» عام 1926، و«رجال الحرب» عام 1942، أما رواياته الأربع التي صدرت بعد رحيله فهي «عيد متنقل» 1964 «آخر بلد طيب» عام 1972، «جنة عدن» 1981، «في ضوء الفجر» 1999.
لكن أبرز رواياته على الإطلاق كانت «العجوز والبحر» التي صدرت عام 1952، والتي حصلت على جائزة بوليتزر عام 1953، ثم حصل عنها أيضاً على جائزة نوبل في الآداب لعام 1954.
وقد عانى همنغواي من اضطرابات نفسية أواخر حياته فوصف له أحد الأطباء علاجاً بالصدمات الكهربائية أفقدته الذاكرة، فصار لا يستطيع الكتابة أو القراءة، كما أصيب بارتفاع ضغط الدم وانخفاض في الوزن، وكانت المفاجأة حين أخبره الطبيب أنه مصاب بالسرطان فقرر وضع حد لحياته وأطلق النار على نفسه من بندقية صيد في الثاني من يوليو عام 1961.
لا يعد النقاد رواية «عيد متنقل» التي صدرت عام 1964 بعد رحيله بثلاث سنوات، رواية بالمعنى التصنيفي للرواية، فهي مذكرات وأحداث عاشها همنغواي خلال وجوده في عاصمة النور مع زوجته «هارلي ريتشاردسون». ولكنها نالت لقب رواية لما تتصف به من أسلوب كتابة شيقة تفصيلية ولما تزخر به من أسماء وأحداث وشخصيات عاشت معه آنذاك في باريس.
يكتب همنغواي في «عيد متنقل» أشبه ما يكون بسيرة ذاتية من خلال وصف ليوميات المدينة التي كانت مسرحاً لحياته خلال خمس سنوات (1921-1926) مصنفاً المقاهي والمطاعم والساحات والأحياء وصالات الملاكمة، كما تظهر في الرواية ملامح كثيرة لشخصيات أدبية وفنية من أبرز مبدعي القرن العشرين حيث جيمس جويس، وت.س. إليوت،و فورد مادوكس، وغريتيور شتاين، وعزرا باوند الذي يسهب همنغواي في الكتابة عنه باعتباره ملاكماً محترفاً يعيش في باريس كاسباً رزقه بقبضته، في مواسم «الترسو» وخلاف ذلك فهو شاعر من طراز رفيع.
ويكشف همنغواي في وصفه لباريس بالعيد المتنقل للقارئ أهم معالم المدينة وأبرز ساحاتها مروراً بمدارسها الفنية وحالات العشق التي تمر على ساكنيها ومن وقع في الهوى مؤخراً، وما هي حكاية إليوت مع النساء. ولأن الرواية هي ذكريات المكان والزمان فقد كانت بلا حدث تصاعدي لاعتمادها على السرد الوصفي لمعالم المدينة التي أحبها همنغواي، أو لاعتمادها على نقل الوقائع لأشخاص سيكونون مستقبلاً أبرز وجوه القرن العشرين إبداعياً.
وهي إلى ذلك لا تقدم حدثاً درامياً بقدر ما تنقل متعة حيوية ولكأن المرء يعتقد أنه يعرف هذه المدينة من خلال هذا الكتاب والذي يشبه دعوة للعيش في واحدة من أجمل مدن الدنيا وأكثرها جلباً للسعادة.

