بعد «الدون الهادئ» لا يذكر القارئ رواية مميزة للروائي الروسي ميخائيل شولوخوف ( 1905 ـ 1984 )، ربما لأنها الرواية التي ميزت أدبه وأدب الحقبة السوفييتية أو لأنها كانت مفتاحه للفوز بنوبل للآداب عام 1965، و التي ترجمت إلى عشرات اللغات ثم تحولت إلى فيلم سينمائي أكثر من مرة.
لكن النقاد يعدون روايته «الأرض التي حرثناها» واحدة من الروايات الجيدة نظرا لطاقتها الانتقادية الضمنية التي حملتها للنظام الاستبدادي الستاليني والتي وضعت المسألة الفلاحية في صورة الاهتمام الأدبي في وقت كانت الإيديولوجية قد سيطرت على معظم القضايا الاجتماعية والوطنية والاقتصادية، وكان نصيب الفن السوفييتي وافرا من الإبداع الموجه الذي لا أحد يتذكره اليوم بانتباه شديد.
ولد ميخائيل شولوخوف في 24 مايو عام 1905 وسارت حياته على الحد الفاصل بين الواقع والمستحيل، بل وكانت أحيانا تتجاوز هذا الخط، فقد كان مستحيلا أن يتولى صبي في الرابعة عشرة من عمره قيادة تشكيل من الفرسان(الخيالة) يتجاوز تعداده المئتين ويقود رجالا أكبر منه سنا وأكثر خبرة لمطاردة فلول العصابات في سهوب الدون الفسيحة، ولحراسة وتأمين فرق مصادرة القمح من الفلاحين الأغنياء والمتوسطين لصالح الثورة.
تفجرت منابع الإبداع المأساوية في القلب الصغير، وظهرت إلى الوجود على مدى ثلاث سنوات(1923 ـ 1926) قصص الدون المذهلة والمفجعة والمشحونة بطاقة ألم عالية وفي الوقت نفسه الممجدة لرومانسية الثورة والكفاح من اجل العدل الاجتماعي ولو بالخوض في بحار الدماء.
وكان مستحيلا أن يشرع شاب في العشرين من عمره (لم يحصل على تعليم جامعي ولا حتى على تعليم متوسط كامل ) في كتابة عمل روائي ملحمي «الدون الهادئ» في أربعة مجلدات يتناول فيها أحداث الحرب العالمية الأولى في روسيا والثورة والحرب الأهلية من خلال قوزاق منطقة الدون وفي مقدمتهم بطل الرواية غريغوري ميليخوف.
وما أن ظهر المجلد الأول من هذه الملحمة(192 حتى ترددت على الألسن كلمة «مستحيل!»... كيف يكتب شاب عديم الخبرة هذه التحفة الهائلة؟ من أين له أن يلم بكل هذه الأحداث التي لم يشارك فيها؟ (إذ كان عمره عند اندلاع الحرب العالمية تسع سنوات) وكيف لهذا المقاتل بالسيف ضد أعداء الثورة ـ بعد قيامها ـ أن يقف في الرواية فوق الأحداث بل ويتعاطف مع بطلها الذي تمرد على الثورة وقاتل في صفوف أعدائها؟
وكان مستحيلا أن تنشر بقية أجزاء الرواية، وخاصة جزءها الثالث الذي يتناول أحداث انتفاضة قوزاق الدون ضد السلطة السوفييتية بسبب الأخطاء البشعة للقادة البلاشفة المحليين التي دفعت القوزاق إلى التمرد والانضمام إلى القوات المعادية للثورة. لكن ستالين تدخل وسمح بنشر ذلك الجزء.
وكان مستحيلا أن ينشر الفصل الرابع والأخير من الرواية (عام 1940 أي أن نشرها استغرق 12 عاما) إذ تعالت الأصوات المطالبة بأن يتحول البطل غريغوري ميليخوف في نهاية الرواية إلى معسكر الثورة ويصبح شيوعيا ! لان المأزق الذي وقعت فيه آلة الدعاية السوفييتية أن ملايين القراء أحبوا ذلك البطل ميليخوف، وتعاطفوا مع آلامه، وبكوا على قصة حبه المأساوي ل«أكسينيا».. فكيف يبقى غريغوري بعد كل هذا الحب الجماهيري في ضلاله وضياعه؟
وكيف لا يرى هذا الأعمى طريق الحقيقة المفضي إلى السلطة السوفييتيةّ؟! ولكن شولوخوف صمد في وجه الضغوط، وتحمل جفاء ستالين ولم يتراجع. وصدر الجزء الرابع وغريغوري ميليخوف يعود إلى ضيعته بعد أن فقد كل شيء. يعود ليحمل ابنه على يديه، راغبا في الاستقرار.لا تقل رواية «الأرض التي حرثناها» شهرة عن رواية «الدون الهادئ» والتي صدرت في جزأين، وكتبت على مرحلتين والفرق بينهما 28 عاما.
فقد صدر الجزء الأول عام 1932 بعنوان «جذور الغد» فيما حمل الجزء الثاني الصادر عام 1960 عنوان «حصاد على نهر الدون» والرواية تتحدث بإسهاب عن حياة الفلاحين في الاتحاد السوفييتي آنذاك وبالتحديد في قرية أوكرانية التي شهدت أحداث الرواية.
ولأن شولوخوف كان يعيش على مقربة من هؤلاء الفلاحين ويعرف الكثير عنهم فقد تيسر له أن يكتب رواية شديدة الواقعية وخاصة أن سنوات المجاعة التي ضربت روسيا مطلع الثلاثينيات دفعت شولوخوف ـ صديق ستالين ـ أن يقنعه لإرسال المؤن إلى الفلاحين في منطقة الدون.
وترمز حياة القرية الأوكرانية إلى مجمل الحياة الفلاحية في روسيا وكذلك الشيوعيون فيها ويتقدمهم الرفيق دافيدوف الحزبي والنقابي الذي أرسل إلى الأرياف مع الآلاف من الرفاق الحزبيين لإقناع الفلاحين للدخول إلى الكولوخوز (تعاونية فلاحية) بمساعدة بعض أعضاء خلية الحزب الشيوعي في القرية، وهم من الرفاق المتفانين في خدمة الثورة والمؤمنين بحتمية انتصارها كونيا.
غير أن الإحباط يصيبهم بعد مرور فترة قصيرة حين يكتشفون أن عملهم في هذه المنطقة عسير جدا، لأن بسطاء الفلاحين يسارعون إلى الدخول للكولوخوزات، ولكن الفلاحين المتوسطين يترددون في الدخول إلى هذه التعاونية وتسليم ماشيتهم ومحاصيلهم إلى هؤلاء الغرباء القادمين مع المدن المتحضرة، وكان بعضهم يفضل قتل ماشيته على تسليمها لهم. وهناك الكولاك وهم من الفلاحين الأثرياء أو الملاك الكبار الذين كانوا يرسلون إلى سيبيريا بعد مصادرة أملاكهم.
ولا تخلو الرواية من فجائعية قاسية حول طريقة المصادرة واقتلاع الناس من أملاكها، آنذاك يصل بعض المتمردين على الحزب إلى القرية الأوكرانية ويتمكنون من نشر شائعة مفادها أن الدولة تصادر البذور من الفلاحين وتصدرها للخارج، وأثر ذلك تنتفض القرية في وجه دافيدوف وأصدقائه الرسميين وتقوم فرق منظمة من الفلاحين بالهجوم على مستودعات الدولة ويتم نهب كل ما فيها، وهنا تتدخل ميليشيات الحزب الشيوعي بقوتها الضاربة لتعيد الأمور إلى نصابها ولتضع حدا لتمرد الفلاحين في هذه المنطقة.
رواية «الأرض التي حرثناها» بجزأيها تمثل تصويرا واقعيا لعملية التحول في المجتمع الروسي ولكن ليس انتقادا للتحويل الاشتراكي لأن الظروف الراهنة آنذاك لم تسمح بنهاية أخرى للرواية سوى بانتصار الحزب ورموزه، وغير ذلك لما كانت الرواية رأت النور، أو تحولت إلى فيلم سينمائي، طبعا ضمن توجهات إيديولوجية بحتة.

