في حقبة برجوازية معادية للفن بحث الروائي الألماني (هيرمان هيسه) في عمق القدرات البشرية وجوهرها، كانت أبرزها روايته «تحت العجلة» والتي كانت تشبه إلى حد بعيد سنوات حياته الأولى، كما يقول، فهي رواية جريئة وذكية ويصفها صديقه توماس مان أنها واحدة من الروايات المليئة بالموروثات والعلاقات الحميمة والذكريات والخصوصيات لأنها ليست تقليدية وترتقي بالحزن إلى مستوى فكري.
ولد هيرمان هيسه في الثاني من يوليو عام 1877 بمدينة كالف التابعة لمقاطعة فوتمبرغ جنوب ألمانيا، كانت عائلته بروتستانتيه متدينة وتلقى تعليماً لاتينياً ودخل الدير مثل أبناء جميع الأسر المتدينة وأصبح طالباً راهباً، حسب رغبة والده، ولكنه هرب من الدير، ثم عمل مساعداً لوالده في مكتبه، ثم ميكانيكياً. كان هيسه موهوباً ساهم عام 1912 في إصدار مجلة مارس الأدبية، رحل إلى الهند وتعرف إلى حضارتها وكتب روايته الرائعة «سد هارتا» .
جاب هيرمان هيسه القارة الأوروبية واعتنق مبدأ المسالمة ورفض أداء الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، عاش في سويسرا فترة طويلة واعتبرته السلطات النازية شخصاً غير مرغوب فيه، نال عام 1946 جائزة نوبل للآداب وتوفي في سويسرا في التاسع من أغسطس 1962. تدور رواية «تحت العجلة» حول شخصية شاب مفرط الحساسية إزاء المحافظين وأساليب التربية البرجوازية في بيئة متزمتة دفعته للاصطدام بها ثم الانهيار.
فقد كان هانز جينبرات الابن الوحيد للسيد جوزيف جينبرات، وهو شخص محافظ يعمل وسيطاً تجارياً ولديه موهبة في كسب المال، كان يفخر بابنه ومنزله وعمله وأصله، ولديه شيء من تدين معلن، خشوع واضح أمام الله والسلطة وانصياع أعمى خلف التقاليد النبيلة للمجتمع البرجوازي محب للأغنياء، محتقر للفقراء، ولديه ميل فطري للأنشطة الاجتماعية، وهو بالإضافة إلى كل ذلك يمتلك قامة عريضة معافاة مثل أبناء بلدته في منطقة الغابة السوداء بألمانيا.
في تلك البيئة نشأ الشاب هانز جينبرات بهي الطلة حاد الذكاء موهوباً في التعلم، حسب رأي المدرسة والكنيسة والجيران، هذا الثلاثي الذي يعتبر محيط هانز الأساسي للتفوق أو التفاخر أو الاستعراض، سيكون له أبرز الأثر مستقبلاً عندما يقع عليه الاختيار ليصبح طالباً في مدرسة دينية يطمح الجميع للالتحاق بها، وتتضافر جميع الجهود في البلدة لإيصال الفتى اليافع هانز إلى تلك المدرسة الدينية المرموقة.
ينطلق الشاب هانز إلى شتوتغارت للتقدم إلى امتحان القبول في المدرسة الدينية، وقد رافقه والده في تلك الرحلة التي سيقضي فيها ابن الريف بضعة أيام في المدينة الكبيرة مندهشاً ومصدوماً، لأن عدد الذين ترشحوا لامتحان القبول مئة وثمانية عشر مرشحاً، بينما الذين تستوعبهم المدرسة لهذه السنة ستة وثلاثون مرشحاً فقط.
أخذ هانز يتردد على الامتحان ويجتازه بنجاح كل يوم ثم يعود إلى بيت عمته، حيث تنهال عليه الأسئلة مع زمجرات غضب، لأن إحدى الإجابات كانت سهلة للغاية لكن الشاب الألمعي لم يعرفها. كانت متعة هانز في كل ذلك هي المدة التي يمضيها متسكعاً بين المدرسة وبيت العمة بعيداً عن الضغوطات النفسية، حراً في فعل ما يشاء، لذلك كانت المسافة التي يمكن قطعها بعشر دقائق تصبح ساعتين من الحرية لشاب ريفي أثقلته التقاليد الصارمة.
اجتاز هانز الامتحان بتفوق وعاد إلى بلدته التي بدأ الجميع يعامله فيها بصيغة عبقري المستقبل، ولكنها صيغة لا تخلو من حسد. حيث أمضى عدة أيام يصطاد الأسماك ويتنزه في الطرق المشجرة يرد التحية على معظم أهل البلدة.
في المدرسة الدينية يندفع هانز كلياً لينهل من شتى العلوم، وخلال الأشهر الأولى يلمع نجمه بشكل واضح بين التلاميذ والمدرسين، وتعقد عليه الآمال ليكون أحد أولئك الذين تعلق صورهم في لوحة الشرف، أو واحداً من سفراء المدرسة الدينية في أنحاء ألمانيا.
كانت أنظمة المدرسة شديدة الصرامة، بل تتفوق علي ما هو متبع في بلدته السابقة، حيث الكنيسة والمدرسة والجيران يفحصون سلوك الأبناء بمجهر شديد الحساسية، إلا أن مدرسة شتوتغارت دمجت كل هؤلاء في صيغة مدير المدرسة ومجموعة من المعلمين الصارمين الذين ينفذون لوائح وقوانين عمرها عشرات السنين على مجموعة من التلاميذ جاءوا من مشارب مختلفة.
بعد مضي أشهر عدة بدأ عالم هانز يتفتح تجاه الآخرين وصار الجميع يطمح إلى صداقته، لكنه لم يجد فيهم ما وجده في الشاب هايلز الجريء، فصار صديقه المقرب ونشأت بينهما أسرار تلك السنوات النضرة من عمر الشباب، وهو ما دفع إدارة المدرسة الدينية إلى الطلب من هانز الكف عن صداقة هايلز، لأن هايلز تلميذ عادي يمكن أن يكون له تأثير سلبي على عبقري المستقبل، وتحت ضغط دائم من متزمتي مدرسة شتوتغارت يفلح صديقه هايلز في الهرب، بينما يصاب هانز بعارض صحي يدفع إدارة المدرسة إلى إعادته لبلدته، متأكدين من أفول نجمه دراسياً في صومعتهم.
عاش هانز شاحباً معضولاً طيلة فصل الخريف في بلدته قليل الكلام كثير التردد على جسر قريب لاصطياد الأسماك أو الجلوس ساهماً مفكراً في اللا شيء، لا أحد يلتفت إليه أو يلقي عليه التحية، وتكاد أحياناً تصبح نظرات المارة سياطاً من الشفقة تلسع أعماق الفتى الذي كان ألمع من نجمة صيف في سماء بلدته.
تحول هانز من طالب عبقري إلى ميكانيكي في ورشة بالبلدة، وقد مسه شيء من الحب لابنة صاحب الورشة التي سرعان ما غادرت البلدة، فانخرط هانز في حياة العمل مع زملاء الورشة الذين كانوا يستغلون يوم الأحد لاحتساء الشراب في حانات قرب النهر ثم يذهبون للتسابق سباحة، وهم في حالة سكر. وكان ذلك حال الشاب هانز الذي جاراهم في لعبتهم فدخل إلى النهر سابحاً تحت عجلة الطاحون، ولكنه لم يخرج منها قط.
