مؤلف هذا الكتاب هو الصحافي الانجليزي الشهير روبرت فيسك. وربما كان أهم صحافي غربي يشتغل في منطقة الشرق الأوسط منذ عدة عقود. وبالتالي فهو يعرفها أكثر من أبنائها أنفسهم. فمنذ أكثر من ثلاثين سنة وهو يجوب هذه المنطقة طولاً وعرضاً لصالح جريدة «الاندبندنت» البريطانية.

وهو الصحافي الغربي الوحيد الذي حظي بمقابلة أسامة بن لادن ثلاث مرات قبل ضربة 11 سبتمبر الشهيرة. وهو يتخذ عادة من بيروت مقرا له ولانطلاقته لاستكشاف أحوال المنطقة من حدود أفغانستان وباكستان إلى حدود سوريا ولبنان مروراً بإيران والعراق ومصر وفلسطين والأردن وشبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج كلها... بل وحتى شمال إفريقيا...

وفي هذا الكتاب الجديد الضخم الذي يتجاوز الألف ومئة صفحة يقدم المؤلف لمحة عامة ومفصلة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ومنذ البداية يقول ما معناه: إن تاريخ الشرق الأوسط يختلط تقريباً بتاريخ حروبه وصراعاته التي ما انفكت تتوالى منذ ربع قرن وحتى اليوم.

فهناك الحرب السوفييتية في أفغانستان (1979)، ثم الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، ثم الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991)، ثم حرب الخليج لتحرير الكويت (1991)، ثم الحرب الأميركية في أفغانستان كرد على ضربة 11 سبتمبر 2001، ثم الحرب ضد عراق صدام حسين (2003)، هذا دون أن ننسى الحروب العربية-الإسرائيلية على فلسطين...

كل تاريخ المنطقة المعاصر مخضب بالدم ومحكوم بالصراعات المدمرة التي لا تترك شعوب المنطقة ترتاح لحظة واحدة. ثم يستهزئ روبرت فيسك بالحروب التي يخوضها الغرب هناك منذ القرن التاسع عشر ويقول: إنهم يزعمون في كل مرة أنهم يخوضون الحروب من أجل تحضر الشعوب الهمجية المتخلفة للمنطقة.

هذا ما قال الانجليز في أفغانستان في القرن التاسع عشر، وهذا ما قالوه في العراق في بداية القرن العشرين عندما استولوا عليه،وهذا ما يقوله بوش حاليا عندما يخوض حربا مشابهة لحرب الانجليز ولكن بعد مئة سنة تقريبا... كلهم يدعون الحرص على المنطقة وإدخال شعوبها في الحضارة والديمقراطية والحرية، ولكن الحقيقة شيء آخر... فهم يريدون السيطرة على المنطقة والتحكم في ثرواتها وسياستها لا أكثر ولا أقل.

ففي القرن التاسع عشر جرت لعبة الأمم الكبرى على أرض أفغانستان بين بريطانيا وروسيا. ودفع الشعب الأفغاني ثمن التطاحن بين القوتين العظميين في ذلك الوقت. وكان هدف الانجليز السيطرة على طريق الحرير وحماية مصالح إمبراطوريتهم في الهند.

ثم جرت لعبة الأمم الكبرى على أرض أفغانستان بعد مئة سنة من ذلك التاريخ بين الولايات المتحدة التي حلت محل بريطانيا كقوة عظمى وبين الاتحاد السوفييتي. وانتهت بدحر الجيش الأحمر ثم انهيار الشيوعية ككل، والآن تغيرت الأمور. فلم يعد العدو الأساسي هو الاتحاد السوفييتي وإنما ما يدعونه بالأصولية الإسلامية.

وأصبح حلفاء الأمس من أمثال بن لادن وحكمتيار والظواهري وسواهم أعداء اليوم. ومعلوم أن المخابرات المركزية الأميركية كانت توزع المال والسلاح على قادة المجاهدين الأفغان من أجل تحقيق هزيمة الاتحاد السوفييتي، عدوها الأساسي طيلة الحرب الباردة.

ثم يردف روبرت فيسك قائلا: لقد أمضيت قسما كبيرا من حياتي في التغطية الصحافية للصراعات المسلحة التي تدور هناك. ورأيت الغرب يخوض الحروب زاعما أنها من أجل الحضارة. وهذا شيء يضحكني فعلا لأنه يمثل مهزلة لا أكثر ولا أقل.

ففي أفغانستان مثلا خاض الروس حربهم باسم محاربة الإرهاب الدولي وحقهم في التدخل لصالح الشعوب المقموعة من قبل الرجعية والإقطاع. وأما خصومهم الأفغان فكانوا يخوضون الحرب باسم الله والدين ضد المعتدين الشيوعيين، أعداء الله كما يقولون.

ثم غطيت بعدئذ الحرب العراقية ـ الإيرانية انطلاقا من الخطوط المتقدمة للجبهة العسكرية. وسمعت الإيرانيين يتحدثون عن الحرب المفروضة عليهم من قبل صدام حسين والغرب الذي يدعمه ويقف وراءه من أجل القضاء على الثورة الإسلامية التي أهانت أميركا بعد إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي.

ورأيت الإسرائيليين يغزون لبنان مرتين ويحتلون بيروت بحجة القضاء على الإرهاب! وفي عام 1991 انتقلت إلى جبهة الكويت لتغطية أحداثها بعد أن غزاها صدام حسين بجيوشه. ورأيت بأم عيني وصول القوات الأميركية وسواها.

وقال الرئيس بوش الأب بأن هدفهم هو تحرير الإمارة الصغيرة وتشكيل نظام عالمي جديد بعد ذلك: نظام قائم على العدل والحق والحرية!

ثم يردف روبرت فيسك قائلاً:وعلى ذرى الجبال الأفغانية التقيت بأسامة بن لادن عندما ابتدأ يلفظ أول تهديداته ضد الولايات المتحدة الأميركية. وقد ظل صامتا عندما كنت أسجل كلماته على ضوء مصباح بترولي في دفتري الخاص. وراح يتحدث لي عن الله والشر في العالم والحرب الحقيقية بين المؤمنين والكفار.

وعندما حصلت ضربة 11 سبتمبر شاءت الصدفة أن أكون فوق المحيط الأطلسي متوجها إلى أميركا. وعندئذ غير ربان الطائرة وجهته فوق بحر ايرلندا وعاد بنا إلى انجلترا خوفا من المخاطر.

وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ وجدت نفسي في أفغانستان من جديد من أجل تغطية الحرب الأميركية ضد طالبان وابن لادن وجماعة القاعدة.

وبعد سنة من ذلك التاريخ كنت في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة استمع إلى خطاب جورج دبليو بوش. وراح يتحدث عن الله والصراع بين الخير والشر في العالم وإمكانية وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق. وكان بذلك يحضر الرأي العام لغزو العراق.

ثم يتحدث المؤلف عن أول لقاء له بابن لادن ويقول: كان ذلك في شهر ديسمبر من عام 1993. وكنت آنذاك مرسلا من قبل جريدتي «الاندبندنت» لتغطية أخبار القمة الإسلامية في الخرطوم. وفجأة تقدم مني صديق سعودي هو الصحافي جمال الخاشقجي وقال لي: يوجد هنا شخص ينبغي أن تلتقي به يا روبرت.

قال لي هذه الكلمات في الفندق الذي كنت أنزل فيه في مدينة الخرطوم. وكان الخاشقجي يلبس الزي السعودي التقليدي لا الطقم الأوروبي. والواقع أن جمال الخاشقجي هو مسلم حقيقي وملتزم بأداء فرائض دينه على الرغم من ليبراليته الجلية. وعندما قال لي هذه العبارة فهمت فورا من يقصد بذلك. عرفت أنه يريد أن يقدمني لأسامة بن لادن لكي أتعرف عليه.

وكان جمال قد التقى به في أفغانستان أثناء الحرب ضد الجيش السوفييتي. ثم أردف يقول لي: هذه هي أول مرة يقابل فيها صحافياً غربياً، فلا تدع الفرصة تفوتك، إنه شخص مهم وله مستقبل. والواقع أن جمال الخاشقجي كان يريد أن يعرف كيف سيتصرف ابن لادن مع شخص كافر مثلي: أي شخص غربي وغير مسلم. وكنت أنا أيضا أرغب في ذلك.

ثم يردف روبرت فيسك قائلا: والواقع أن قصة ابن لادن تعتبر مغامرة كبيرة وتستحق أن تروى. فعندما غزا الجيش السوفييتي أفغانستان عام 1979 قررت السعودية أن تقدم للأفغان فيلقا عربيا لمساعدتها على مواجهة هذا الغزو. وقد شجعتها المخابرات المركزية الأميركية على فعل ذلك.وعندئذ استلم ابن لادن قيادة القوات العربية في أفغانستان نظرا لحماسته الدينية وعدائه الشديد للشيوعية الإلحادية.

ثم يتابع المؤلف كلامه قائلا: لنعد الآن إلى قصة لقائي بابن لادن لأول مرة شمال الخرطوم. فقد قادني إلى هناك بالسيارة جمال الخاشقجي وقال لي أثناء الطريق: الناس هنا يحبون ابن لادن لأنه صرف أموالا كثيرة على الشعب السوداني من أجل تحسين أوضاعه وخدمة الفقراء. والواقع أن هذا الشيء ليس مدهشا على الإطلاق. فالإسلام منذ بداياته الأولى كان يدعو إلى الاهتمام بالفقير والمسكين وابن السبيل. وهنا تكمن عظمة الإسلام في الواقع.

وعندما وصلنا إلى خيمة ابن لادن كان جالسا على الأرض يحيط به رجاله من المجاهدين العرب في أفغانستان. وكانوا كثيرين. وفي الوقت ذاته كان يستقبل الفلاحين السودانيين البسطاء الذين جاءوا لتقديم الشكر له لأنه أول من شق طريقا معبدة تصل قريتهم بالعاصمة. وأول شيء أدهشني في ابن لادن هو حياؤه وخجله. فعندما كان شيوخ المنطقة من السودانيين يمدحونه ويشكرونه كان يحني رأسه خجلا وهو يشعر بالحرج. ولكن عندما عرف بوجود صحافي غربي في الحفل على بعد خطوات منه ازداد حرجه.

وكان يوجه إلي من وقت لآخر نظرات إن لم تكن عدائية صراحة إلا أنها كانت تدل على الاشتباه بي وعدم الثقة. وعندما تقدم منه جمال الخاشقجي وسلم عليه قبله ابن لادن على كلتا الوجنتين. وبعدئذ جاء دوري فسلمت عليه مصافحة باليد قائلا له: السلام عليكم. وعندئذ اقترح علي أن ننتقل إلى مكان آخر في الخيمة بعيدا عن الضوضاء والأطفال والشيوخ والزوار من أجل أن نتحدث بهدوء. على هذا النحو حصل لقائي الأول مع ابن لادن لكنه لن يكون الأخير.

الكتاب : الحرب الكبرى من أجل

الحضارة فتح الشرق الأوسط من قبل الغرب (1979-2005)

الناشر: ألفريد أ. نوف ـ لندن 2005

الصفحات 1107 صفحات من القطع المتوسط

The great war for civilization :

The conquest of the Middle East

Robert Fisk

Alfred A. Knop - London 2005

P.1107