لم يكن موضوع الاتحاد الأوروبي جديدا في جوهره، ذلك أن عددا كبيرا من المفكرين والأدباء والكتاب والعلماء حلموا بأوروبا الموحدة أمثال: سان سيمون، فيكتور هيغو، دريو لاروشيل، جوليان بوندا، إيمانويل بيرل، ديني روجمون وغيرهم. وكل أولئك حاولوا الهرب من السقوط في النظرة القومية الضيقة.

والسؤال الجوهري المطروح حاليا هو: هل أدى هذا الطموح بالنتيجة إلى تأسيس قطب قوي في مواجهة العالم الأنجلو ـ سكسوني؟ وهل أدى ذلك أيضا إلى مواجهة القيم التجارية لأميركا ودينها الوحداني في الربح؟ وهل حاولت أوروبا أن تستوحي قيما تتفق مع تراث القيم المسيحية؟

تساؤلات أخرى تطرح نفسها بإلحاح بعد توسع الاتحاد الأوروبي إلى 27 دولة، وهي: هل أن الثقافة الأدبية لدول الاتحاد الأوروبي قادرة على الاحتفاظ بالهوية التي تبتلعها العولمة يوما بعد آخر ؟

إن ما يجمع الكتاب والأدباء والمفكرين الأوروبيين هو الماضي، ولكن هذا الماضي ليس مقدسا، وهذه التقاليد ليست في لوح محفوظ، فالماضي والتقاليد يتغذيان على حداثة لا حدود لها في الوقت الحاضر. فبعد أن كانت المراجع الثقافية والأدبية والفنية تجد جذورها في روما وباريس ومدريد وفيينا بدأت تجدها في نيويورك ولوس أنجلوس وطوكيو، والآن في دول أوروبا الشرقية بعد انضمامها مؤخرا.

وإذا ما عدنا بالتاريخ إلى الوراء، فلابد لنا من أن نتذكر مؤتمر السلام الذي انعقد في 21 من أغسطس عام 1849، وعلى الخصوص خطاب الافتتاح الذي ألقاه فيكتور هيغو، وأضفى الشعر على الهوية الأوروبية عندما قال « يأتي يوم تحل الأصوات الانتخابية محل المدافع والقنابل، وسيحكم مجلس الشيوخ عموم أوروبا». ودعا ولأول مرة إلى إنشاء الولايات المتحدة لأوروبا، قائلاً: « سيأتي يوم نرى فيه الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا تلتقيان وجها لوجه ويبسطان اليد فوق البحار...»

والسؤال المؤرق هو: كيف يمكن الحفاظ على الهوية في الحداثة؟

وهل الانترنت وقرارات تكنوقراط بروكسل وبنوك فرانكفورت قادرة على إلغاء الهوية الأوروبية؟

الكوليج دي فرانس، وهي من أعرق الأكاديميات، احتضنت مؤخرا مؤتمر «الهوية الأدبية لأوروبا»، ساهم في إحيائه عدد من الكتاب والمفكرين والشعراء أبرزهم: مارك فيمارولي، ميشيل زنك، غيف بونفوا، وهارالد وينريش، من أجل تعريف الهوية الأدبية لأوروبا وتحديدها.

ولعل الأسئلة التي طرحها المؤتمر تصب في الجوهر ومنها: ما هي الأسس التي تبنى عليها المخيلة الأوروبية؟ وما هي الأساطير التي تشكل أوروبا؟ وهل أن الهوية الثقافية ميراث مشترك؟ وكيف يتم المحافظة على هذه الهوية في ظل التكنولوجيا الجديدة؟ وكيف نواجه الأزمات الاجتماعية؟ وكيف تقف أوروبا بوجه الأمركة؟

ولم يطرح أي مفكر منهم بأن هذه الهوية مهددة بالانقراض. فعلى سبيل المثال، أن فلاديمير نابوكوف تخلى عن لغته الروسية وابتدع لغة إنجليزية مذهلة، وكذلك فعل جوزيف كونراد، وجوزيف برودسكي. هؤلاء الكتاب والأدباء يتشكلون من جزء روسي، وجزء إنجليزي، وجزء من المخيلة. ويذكر رومان بيترو سيتاني، أحد الذين شاركوا في ندوة «الكوليج دي فرانس» قائلا : أليس فيرجيل وأوفيد هما من أبناء العولمة لعصرهما؟

بينما ذهب آخر إلى القول، وهو هارولد وينريش: ليس الأوروبي هو من يولد في أوروبا، بل هو الذي يصبح أوروبيا ويحب التنوع الثقافي. فالهوية الأوروبية هنا تتجسد في النظر إلى الآخر كأجنبي، غني بتاريخه وتنوعه الثقافي. فيما يذهب آخرون إلى أن العولمة عبارة عن تحد لأوروبا.

ومهما يكن، فإن الهوية الأوروبية انبثقت ككتلة اقتصادية جديدة ونظام مالي رصين، وهي الوعاء الذي يحافظ على ديمومة هذه الأمم.

كل شيء يبدأ بالأدب وينتهي بالسياسة.

فهل يمكن لنا، نحن العرب، أن نتعامل مع الأقطاب الجديدة التي تظهر في العالم، ونحن أهل الهوية الثقافية والأدبية المشتركة بالفطرة والقدر بامتياز؟

نحن بأمس الحاجة إلى أخذ العبر والدروس من ولادة الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يشكل ثقلا كبيرا في لعبة التوازنات الكونية.