نتناول في هذه الحلقة موضوع الإرهاب الذي يفرد له المؤلف فصلا كاملا من كتابه، ولكنه عندما يتحدث عن المقاومة الوطنية للاحتلال ينعتها بالإرهاب شأنه شأن رموز الإدارة الأميركية ورئيسها، إلى جانب الحديث عن الإرهاب بمعناه الحقيقي الذي لا خلاف عليه، كما أنه يلح على إلصاق صفة «الإسلامي» بالإرهاب مع أنه يغفل تماما الحديث عن الإرهاب الأوروبي أو الإسرائيلي ولا يلصق به صفة «المسيحي« أو «اليهودي»!!.
ومع ذلك فإن الأمانة في عرض الكتاب تقتضي ألا نغفل آراء صاحبه حتى ولو لم نوافقه على بعضها، وأن نناقشها من وجهة النظر المعارضة سواء كانت أميركية أو أوروبية أو عربية. ونحن في نهاية الأمر على ثقة كاملة بفطنة القارئ العربي وإدراكه لكل ذلك.
بعد أن يشير المؤلف في الفصل الثالث إلى وجود خلاف في تعريف الإرهاب، يذكر أنه مازال يوجد تعاون دولي واسع النطاق ضد الإرهاب بشكل أفضل مما سبق نظرا لأن جميع القوى العظمى الأخرى عانت تجربتها المؤلمة معه مما عزز المفهوم القائل بأن الإرهاب أصبح يمثل خطرا مشتركا يتطلب مواجهة جماعية.
ويضيف المؤلف أن هناك إدراكا متناميا مؤداه أنه لم يعد ممكنا تبرير الإرهاب أو التسامح معه مهما كانت قضيته، ذلك بسبب هشاشة المجتمعات الحديثة وتزايد قدرات الأسلحة الحديثة. (ويمكن للقارئ أن يجد في هذا القول إشارة مبطنة إلى وصم حركات التحرر الوطني بالإرهاب مهما كانت القضية التي تدافع عنها).
ويخرج المؤلف من ذلك إلى تأكيده على ضرورة تقنين إجماع الدول في اتفاقية دولية جديدة تعرف الإرهاب وتلزم الدول بحرمان الإرهابيين من أي شكل من أشكال الدعم. ورغم فائدة مثل هذه الاتفاقية، من حيث تجريم الإرهاب وحرمان الإرهابيين من الموارد المالية أو الملجأ الآمن أو المزيد من الأسلحة الفتاكة، يرى المؤلف أنها ليست كافية رغم أهميتها، ويبرر ذلك بأن الإرهاب لم يعد مجرد شيء مخيف بل أصبح معقدا بدرجة مفزعة.
ولم يعد الحديث عن «الحرب على الإرهاب» كافيا لا لتحديد الخطر ولا لوضع الحلول، فالحروب تنشب عادة بالأسلحة العسكرية، ويخوضها جنود في ميادين القتال، ولا ينطبق شيء من ذلك على الإرهاب، فالإرهابيون يستطيعون استخدام فتاحة علب، وطائرة مدنية، وسيارات وشاحنات، ولا وجود لساحة قتال بالنسبة لهم لأن كل مكان هو ميدان قتال من المطارات إلى مراكز التسوق والمطاعم ودور السينما.
ويضيف مؤلف الكتاب أن الحروب لها نهاية، كما أن مداها يتنوع ما بين «حرب الأيام الستة» في الشرق الأوسط عام 1967، وحرب الثلاثين عاما التي نشبت قبل نحو ثلاثة قرون بين انجلترا وفرنسا. وللحروب في العادة بدايات ونهايات مميزة، وتسفر في الغالب عن توقيع معاهدة، ولكن بالنسبة للحرب على الإرهاب، لا يبدو أي احتمال لإنهائها، وسوف يكون هناك دائما أفراد أو جماعات تشعر بالظلم، أو تؤمن بمجموعة من الغايات، وتعتقد أن ذلك يمنحها الحق في القتل والتدمير.
ومما يضاعف المشكلة أن الإرهابيين لا ينتمون إلى منظمة واحدة وإذا أمكن أسر أسامة بن لادن أو اغتياله، فقد يختفي تنظيم القاعدة ولكن تستمر فروع أخرى في نشاطها. وفي الحقيقة يمكن فهم أسامة بن لادن، بوسيلة أو أخرى، على أنه الرئيس المؤسس الذي يقدم الموارد والإرشاد لجماعات كبيرة مستقلة. ويستشهد المؤلف بتقرير حكومي أميركي نشر عام 2003 يقول:
إن الانتصار على الإرهاب لن يحدث في لحظة واحدة ومحددة. ولن تميزه مظاهر الاحتفال بالاستسلام، كما حدث على متن السفينة الحربية الأميركية «ميسوري»، الذي أنهى الحرب العالمية الثانية.
ويتساءل ريتشارد هاس قائلا: «إذا لم يكن الإرهاب حربا فكيف ينبغي أن نفهمه؟» ويجيب قائلا: «ربما كان وباء»، ويخلص إلى أن الحماية منه تستلزم استخدام الاستخبارات، وفرض القوانين، واستخدام القوة العسكرية، وقوى الأمن الداخلي، ودعم الأبنية والتجهيزات اللازمة لتخفيف آثار أية عمليات ناجحة مثل الاستعدادات الطبية، والدفاع المدني.. الخ.
الكيل بمكيالين
ويذكر المؤلف أن النجاح لا يمكن النظر إليه على أنه استئصال الإرهاب أو إنهاؤه مثلما لا نستطيع تعريف الصحة بأنها استئصال أو إنهاء جميع أنواع المرض، وقد نقضي على جماعة أو نأسر ونقتل أفرادا بعينهم، ولكن سوف يستمر الإرهاب بشكل أو بآخرس. ولا يتشابه جميع الإرهابيين، ولا يمكن التعامل معهم بنفس الاستراتيجية.
وهنا نجد أن صاحب الكتاب يهون من أمر الجيش الجمهوري الأيرلندي ومنظمة إيتا الانفصالية في الباسك لكي يعود فيؤكد - حسب قوله - ان الجزء الأكبر من الإرهاب يتمثل فيما يسميه «الإرهاب الإسلامي» إذ يقول إن الإرهاب الأيرلندي والباسكي لهما أهداف خاصة محدودة بغض النظر عن مدى الاعتراض على أساليبهما.
ويطلق هاس عليهما اسم «الإرهاب التقليدي» زاعما أن الأهداف المحدودة يمكن مواجهتها - من حيث المبدأ - عبر الدبلوماسية التقليدية، وأن الأسلوب الأفضل في تلك الحالة هو مزيج من الحزم (أي مهاجمتهم مثل مهاجمة أي إرهابي)، و الإنصاف (أي تلبية تلك الأهداف السياسية المعقولة).
وعلى عكس هذا المكيال الذي يمكن أن نعتبره رقيقا، يكيل مؤلف الكتاب الأمور بمكيال آخر عند خلط الأمور والإصرار على التلاعب بصفة «الإسلامي» إذ يقول إن الأسلوب السابق ذكره يتعارض بشدة مع من يسميهم «الإرهابيون الوجوديون» ويعّرفهم بأنهم الأفراد والجماعات الذين لديهم أجندة بعيدة المدى.
ولا يمكن إرضاؤهم أبدا بسياسة الأخذ والعطاء أو الحلول الوسط، وينطبق هذا على نوع مما يسميه «الإرهاب الإسلامي» مثل تنظيم القاعدة، الذي يقول إنه يسعى إلى الانتقام مما يراه أخطاء وإهانات التاريخ، أو يرفض الغرب لسبب ما. ويوغل مؤلف الكتاب في ظلم الشعب الفلسطيني ويطلق على الفلسطينيين عبارة «الإرهابيون الفلسطينيون» الذين يرفضون الاعتراف بدولة إسرائيل.
الإرهاب الإسرائيلي
هنا مربط الفرس كما يقولون ، فريتشارد هاس لا يهتم إلا بدولة الصهاينة شأنه في ذلك شأن الإدارات الأميركية المتعاقبة التي سبق له أن عمل في خدمتها، فالمقاومة الفلسطينية الوطنية لتحرير الوطن من الاحتلال عمل إرهابي في نظره. ونجد أن المؤلف لم يجرؤ على الحديث عن إرهاب الدولة الإسرائيلي ولا عن حق الشعب الفلسطيني في التمسك بحقوقه المشروعة والدفاع عنها، ويتناسى هاس الظلم الواقع على الشعوب المستضعفة والواقعة تحت نير احتلال استيطاني شرس كالاستيطان الإسرائيلي.
وحتى لا ينخدع أي قارئ عربي للكتاب الذي نستعرضه، نود أن نشير هنا إلى الإحصاءات التي تضمنها تقرير لمركز المعلومات لحقوق الإنسان المعروف باسم بيتسيلم وهو مركز إسرائيلي. ويتعرض التقرير لجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلي في الفترة من يوم 29 سبتمبر عام 2000 إلى يوم 28 فبراير عام 2006.
ففي هذه الفترة قتل 3430 مدنيا فلسطينيا مقابل 684 مدنيا إسرائيليا، أي أن إرهاب الدولة الإسرائيلي وصل عدد ضحاياه إلى خمسة أضعاف ضحايا المقاومة الفلسطينية. ويشير تقرير المركز الإسرائيلي إلى أن من بين الضحايا الفلسطينيين صبية تقل أعمارهم عن خمسة عشر عاما ويبلغ عددهم 679 غلاما مقابل 118 صبيا إسرائيليا.
ونعود إلى المؤلف وكتابه لنجده يطرح سؤالا مهما إذ يقول: «هل نحن (أي الأميركيون) مكروهون لذاتنا أم لما نفعله؟» ويضيف قائلا «إن الإرهابيين لا يهاجمون الولايات المتحدة بسبب إعلان الحقوق الأساسية أو لأننا نتمتع بحرية الكلام أو التجمع، ولكن بعضهم يسعى إلى الانتقام لجرائم ومذلات ارتكبت ضد المسلمين على يد غير المسلمين عبر القرون، أو بسبب أنهم يريدون فرض السيطرة الإسلامية عبر العالمز على حد قوله.
ويستشهد ريتشارد هاس بالمؤلف الأميركي مايكل شوير وكتابه بعنوان «العجرفة الإمبريالية» الذي لقي انتشارا واسعا، والذي جاء فيه أن «أميركا مكروهة ومعرضة للهجمات لأن المسلمين يعتقدون أنهم يعرفون بدقة ما تفعله الولايات المتحدة في العالم الإسلامي». وقد انعكست وجهة النظر هذه في تقرير لمجلس علم الدفاع في سبتمبر 2004 مقدم إلى وزارة الدفاع الأميركية.
وقد جاء في هذا التقرير «ان المسلمين لا يكرهون حريتنا ولكنهم يكرهون سياساتنا. وتعلن الغالبية العظمى منهم عن اعتراضاتها على ما ترى أنه دعم أحادي الجانب لصالح إسرائيل وضد الحقوق الفلسطينية، والدعم المتواصل لبعض النظم الحاكمة في العالم العربي والإسلامي التي يجمع المسلمون على اعتبارها نظما استبدادية».
ويعقب ريتشارد هاس على ذلك بقوله إن عددا من السياسات يشار إليه باعتباره من دوافع الإرهاب، ومن بينها مثلا الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق ، والدعم الأميركي لنظم حكم شمولية وفاسدة في المنطقة.
وهو دافع آخر من حيث ان بعض العرب والمسلمين الرافضين لمن يعتبرونهم حكاما غير صالحين، أصبحوا يرون أن الإرهاب هو أفضل وسيلة متاحة لإسقاطهم. ويمكن ترجمة ذلك إلى هجمات على الولايات المتحدة التي تُعتبر القوة المعروفة بوقوفها وراء العروش. كذلك تلقى الولايات المتحدة الانتقادات لدعمها الهند في كشمير، وروسيا في الشيشان، والصين في إكسينيانغ، ويُنظر إلى كل هذه المواقف باعتبارها معادية للمسلمين.
ويعتبر المؤلف القضية الفلسطينية عاملا مهما في مناقشته لمسألة ما يسميه الإرهاب، ولكنه يعود فيذكر أنه لا يعني بذلك ما يطلق عليه «الإرهاب الفلسطيني المحليس الذي لا يزال حتى الآن يركز عملياته ضد الإسرائيليين كأهداف كما يقول. ثم يصنف ما يسميه الإرهاب بشكل عام في نوعين: الأول يسميه الأكثر تقليدية والأقل تنوعا والذي يستخدم «الإرهابس لحث إسرائيل على تقديم المزيد من التنازلات على مائدة المفاوضات، أما النوع الثاني فهو ما يسميه المؤلف النوع الراديكالي المتعدد الفروع، ويزعم أنه يسعى إلى تدمير إسرائيل نفسها لا إلى التأثير على الدبلوماسية الإسرائيلية.
ثم يشير الكتاب إلى أن معظم العرب والمسلمين في جميع أنحاء العالم يعتقدون أن الولايات المتحدة لم تفعل الكثير لمساعدة الفلسطينيين بينما توفر الكثير من الدعم لإسرائيل (وأرجو أن يلاحظ القارئ هنا إصرار المؤلف على تحاشي ذكر عبارة «الشعب الفلسطيني» ويكتفي باستخدام الوصف العام الذي توفره كلمة «الفلسطينيين» ولذلك فمن حقنا أن نتساءل: (أليس في هذا إنكار لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة؟).
ويستطرد ريتشارد هاس قائلا إن هناك أفرادا يعتقدون أن مهاجمة الأميركيين قد تمكنهم من إقناع الولايات المتحدة بإعادة النظر في دعمها لإسرائيل، وإذا لم يتحقق ذلك فإنهم يكونون قد أنجزوا - على الأقل - درجة ما من «الانتقام أو تحقيق العدالة» إزاء الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين التي تتم بمساعدة أميركية.
وإذا صح هذا القول، وإذا صح الاعتقاد بأن دوافع إرهابيي اليوم تنبع إلى حد كبير من سلوك الولايات المتحدة في العالم، فمعنى ذلك بوضوح أن الإرهاب ضد الولايات المتحدة وشركائها سوف ينحسر بشكل دراماتيكي إذا تغيرت السياسات التي أدت إلى الإرهاب.
ويعترف المؤلف بوجود ما يسميه «بعض الحقيقة المحدودة» في الزعم بأن الإرهابيين مدفوعون جزئيا بما تفعله الولايات المتحدة في أنحاء العالم، ومع ذلك يرى صاحب الكتاب أن خلافاتهم مع الولايات المتحدة وشركائها عميقة إلى درجة أنه لا سبيل إلى استطاعة الولايات المتحدة - أو حتى إلى رغبتها - تلبية اعتراضاتهم عن طريق إجراء تغييرات على سياستها الخارجية.
وبعد ذلك يسهب المؤلف في تبرير وجود القوات العسكرية الأميركية في عدد من الدول ومن بينها بعض الدول العربية ويذكر أن ذلك الوجود لا يعتبر احتلالا عسكريا لها ويبرره بأنه تنفيذ لقرارات الأمم المتحدة. وعند الحديث عن أفغانستان يقول إن القوات الأميركية ذهبت إلى هناك لإلحاق الهزيمة بحركة طالبان.
وينكر تماما أن ذلك البلد كان محتلا ويشير إلى أن الجزء الأكبر نسبيا من الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان (وهو نحو 17 ألف جندي) سببه مطاردة تنظيم القاعدة، وأن قوات حلف شمال الأطلسي هناك لمساعدة الحكومة في جهد صحيح وضروري. أما بالنسبة للعراق فإنه يردد نفس المبررات التي أطلقتها آلة الدعاية الأميركية المعبرة عن إدارة بوش.
وبعد ذلك كله يريد المؤلف أن يقول إن هدف الإرهابيين هو إسقاط النظم الحاكمة القائمة، ورغم أن تلك النظم لا تحظى بإعجاب الولايات المتحدة إلا أنها تكتفي بمطالبتها بالإصلاح ولا تسحب دعمها لها لأن سياسات تلك النظم تخدم المصالح الهامة للولايات المتحدة وهي التعاون الأمني، وضمان الحصول على إمدادات النفط، والاستعداد لقبول دولة إسرائيل.
وهذه الأهداف لن يخدمها أي نظام آخر يخلف النظم القائمة وتؤيده القاعدة. ويردف هاس قوله: «هذا هو الدرس الذي تعلمناه مما حدث في إيران منذ خمسة وعشرين عاما ومفاده تحديدا أن نظما أسوأ كثيرا يمكن أن تحل محل النظم الشمولية المكروهة.
وواضح بطبيعة الحال أن المؤلف يشير هنا إلى اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية وسقوط شاه إيران. ويتهم تنظيم القاعدة باستخلاص بعض دوافعها المحركة من قضية فلسطين والتأييد الأميركي لإسرائيل ولكن ذلك لا يعني أن أسامة بن لادن فعل ما فعله يوم 11 سبتمبر لأنه يريد دولة فلسطينية أو لأنه أراد رسم الخط الفاصل بين الدولة الفلسطينية المقترحة ودولة إسرائيل بطريقة مختلفة.
ويضيف هاس أن أسامة بن لادن ومن معه يرفضون حل الدولتين ويريدون دولة واحدة فقط مما يعني عدم وجود إسرائيل، ومن الواضح أن هذا مرفوض كما يقول المؤلف، ولكنه يقر بوجود رأي غالب يعتبر أن الولايات المتحدة معادية للعرب وللمسلمين، وأن السياسة الخارجية الأميركية حافلة بالمواقف التي تكيل بمكيالين خدمة لمصالحها لا لمصالحهم.
نفس السؤال
وإذا عدنا إلى نفس السؤال الذي يطرحه ريتشارد هاس، والذي طرحه الأميركيون قبله بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو عن سبب كراهية المسلمين والعرب لأميركا، فإننا نجد إجابة أكثر شجاعة وصدقا من صحافي وأستاذ جامعي أميركي اسمه لورانس بينتاك في كتاب حديث له أصدرته الجامعة الأميركية بالقاهرة وعنوانه «أميركا.. الإسلام..
وحرب الأفكار: مشاهدات عدسة ملطخة بالدماء». ويذكر مؤلفه أن أميركا فشلت في تصحيح صورتها في العالم العربي بعد فشلها في حماية أمنها القومي يوم 11 سبتمبر. ومثلما يتحدث ريتشارد هاس عن فرصة أميركا في كتابه الذي نستعرضه، يرى لورانس بينتاك في كتابه أنه كانت أمام أميركا فرصة أضاعتها عندما اكتسبت تعاطفا عالميا غير مسبوق شمل الدول الإسلامية بعد 11 سبتمبر، فقد أضاعت أميركا فرصة بناء علاقات جيدة مع العالم العربي.
وبدلا من ذلك انتهجت سياسات أثارت سخط المسلمين المعتدلين، ثم ارتكبت الإدارة الأميركية العديد من الأخطاء السياسية التي بدأها الرئيس جورج بوش بتعليق مثير للجدل عما أسماه «الحرب الصليبية الجديدة»، والأخطاء التي شملت أيضا اتخاذ قرارات تصب في مصلحة إسرائيل وتمثل تهديدا للعالم الإسلامي. ونتيجة لذلك باتت أميركا بلا أصدقاء في العالم العربي.
ومع ذلك يقول ريتشارد هاس إن الولايات المتحدة تستطيع أن تلعب دورا مهما في منع الرجال والنساء في العالم العربي من التحول إلى إرهابيين، ويقتضي هذا الدور تخفيض حجم الوجود العسكري الأميركي، ومجال ظهوره، ومدة بقائه في المنطقة، إلى أدنى حد وخاصة في العراق قبل أي مكان آخر.
ولكن المؤلف يستدرك قائلا إنه لا يتحدث هنا عن تحديد اعتباطي لتاريخ الانسحاب، فمثل هذه التواريخ لا تفيد بشيء، ولكنه يقترح وضع استراتيجية لإيجاد مخرج يتيح انسحاب القوات الأميركية، ولكنه يتوقف على افتراض تحمل العراقيين لنصيب متزايد من الأعباء الأمنية، الأمر الذي يتطلب تسريع عملية تدريب أفراد الشرطة والعسكريين العراقيين، ومن الممكن الحصول على مساعدة قوات من الدول العربية وغيرها.
ويرى هاس أيضا أن القضاء على الإرهاب يتطلب دعما فعالا لإقامة دولة فلسطينية. ذلك لأن الموقف الحالي في الشرق الأوسط لا يخدم مصالح أي من طرفي النزاع، فالفلسطينيون يدفعون الثمن الأكبر للموقف الحالي وهو لا يعني عدم الحصول على دولة فحسب، ولكنهم يعانون من تدني مستوى معيشتهم بدرجة شديدة.
وهبوط حجم الناتج الاقتصادي، ويعاني ثلث القوة العاملة على الأقل من البطالة (سيلاحظ القارئ أن هذه المعلومات الواردة في الكتاب يسبق تاريخها وقت نجاح حماس في الانتخابات الفلسطينية وتوليها حكم البلاد وما تلا ذلك من ضغوط اقتصادية بقطع المعونات الأميركية والأوروبية عن الشعب الفلسطيني عقابا له على خياره الديمقراطي الحر). ويضاف إلى معاناة ذلك الشعب تعرضه للإذلال اليومي على يد قوات الاحتلال.
ولكن المؤلف يشير إلى أن إسرائيل أيضا تدفع ثمن سياسة الأمر الواقع، لأن احتلال بلد ما أمر باهظ التكاليف من جميع الزوايا مثلما أدرك الأميركيون ذلك الدرس المفزع في العراق. والثمن الذي تدفعه الولايات المتحدة من استمرار الأحوال الراهنة ليس خافيا على أحد كما أنه أمر حقيقي وواقع ملموس.
والرأي السائد في العالمين العربي والإسلامي (وفي أوروبا أيضا)، هو أن الدعم الأميركي يقوي إسرائيل، ويعتبر هاس أن هذا الرأي هو المصدر الرئيسي لمعاداة الولايات المتحدة، كما أنه يجعل من الصعب على الحكومات المحلية العمل مع أميركا، ويزيد كذلك صعوبة قيام واشنطن بدور المناصر للإصلاح في المنطقة، نظرا لأنها ليست موضع ثقة أو ترحيب بها.
الكلام لا يكفي
لقد كانت مطالبة إدارة جورج دبليو بوش بضرورة قيام دولة فلسطين المستقلة تطورا مهما من شأنه أن يحدث تغييرا كبيرا في مفاهيم ومستقبل دبلوماسية الولايات المتحدة، غير أن صاحب الكتاب ينتقد تقاعس الإدارة الأميركية لأنها لم تفعل شيئا لتعزيز هذا المطلب.
ويقول: «ليس كافيا أن يقال إن الولايات المتحدة تساند زخارطة الطريق» بينما تفشل في منحها أولوية دبلوماسيةس. ولن يكون عاملا مساعدا التحدث علنا - كما فعلت الولايات المتحدة في ابريل 2004 - عن جوانب الوضع النهائي الذي رحب به الإسرائيليون والذي يذكر أن للفلسطينيين حق العودة إلى دولة فلسطين فقط، بينما تستطيع إسرائيل التمسك بالأراضي التي تعكس تغيرات ديموغرافية معينة فيما بعد عام 1967، دون الحديث عن غيرها من قضايا الوضع النهائي الأخرى التي قد يرضى عنها الفلسطينيون.
وإذا أرادت الولايات المتحدة تقديم حوافز للفلسطينيين حتى يتصرفوا بشكل إيجابي، فإنها تحتاج إلى الإعراب بوضوح عن تأييدها لتقسيم الأراضي على أساس خطوط عام 1967 مع تعويضات للفلسطينيين عن الأراضي المحدودة خارج تلك الخطوط التي تصر إسرائيل على الاحتفاظ بها. كذلك يلحق الضرر بالولايات المتحدة إذا لم تبذل المزيد من الجهد لكبح جماح المستوطنات الإسرائيلية وأنشطة بنائها التي تتعارض في جوانب كثيرة مع محاولة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ويعتقد مؤلف الكتاب أن هناك فرصة سانحة لاتخاذ خطوات كبرى في اتجاه حل هذا الصراع الذي طال أمده، ولكن بشرط أن تنشط الولايات المتحدة في الحصول على مساعدة الآخرين بما فيهم الاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا والأمم المتحدة والدول العربية مثل مصر، للعمل مع الفلسطينيين لتوفير قدرات دولة حديثة، والتأكد من أن الانسحاب الإسرائيلي لن يسفر عن فراغ أمني يملؤه من يسميهم المؤلف «الإرهابيين» مرة أخرى، وتنشيط مفاوضات تتناول قضايا النزاع الجوهرية.
ومرة أخرى أيضا يعود إلى الكيل بمكيالين عندما يتحدث عن ضرورة توفير أجواء ديمقراطية كشرط مسبق لتحقيق السلام. ويستشهد في ذلك بما جاء في كتاب «قضية الديمقراطية» للمنشق السوفييتي السابق ناتان شارانسكي عضو الكنيست الإسرائيلي الآن إذ يقول إن على إسرائيل أن تربط تنازلاتها بدرجة الانفتاح والشفافية والتحرر التي تتوفر لدى جاراتها.
وهذا ما يؤيده بوش إلى حد ما على الأقل. ومع ذلك يتهرب هاس من استحقاقات الديمقراطية فيزعم أن من المؤكد أن وجود دولة فلسطينية ديمقراطية، أمر مرغوب فيه ولكن لا ينبغي اعتبار ذلك أمراً جوهرياً!! ويرى أن من شأن المطالبة بأن تكون دولة فلسطين ديمقراطية أن تسد الطريق على أية مفاوضات سلام لعدة سنوات، وأن تغذي الراديكالية والعنف!!
ويضيف هاس حجة أخرى للتملص من الديمقراطية بقوله: التاريخ أيضا يبين لنا أن الديمقراطية ليست ضرورية لتجنب الحرب فإسرائيل تتمتع بعلاقات كاملة مع دول غير ديمقراطية مثل مصر والأردن منذ سنوات، وكذلك الولايات المتحدة التي تجنبت الحرب معظم سنوات القرن العشرين، تتمتع الآن بعلاقات تعاون وثيق مع الصين وروسيا اللتين لا يمكن وصفهما بأنهما من الدول الديمقراطية. ولا يهم الآن شخصية حكومة المستقبل في فلسطين، ولكن الأهم قدرتها ورغبتها في توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل والالتزام بالتعهدات الناشئة عنها.
عرض ومناقشة: صلاح عويس