إنه التسليم بالأمر، أو كما اعتاد ان يقول لي صديق عزيز: «هكذا نسير». كنت جالساً في مطار بغداد منتظراً طائرتي الصغيرة ذات العشرين مقعداً التابعة لخطوط فلاينغ كاربيت لتقلني الى بيروت، ولكن المندوب المحلي في العراق السيد غزوان لم يظهر كعادته، فمن دونه لا أستطيع ان أدخل منطقة المغادرة أو فحص الجوازات.
أتذكر ما حدث في يناير الماضي عندما قال لي إنه لن ينسى ان يصاحبني لدى عبوري منطقة الإجراءات الأمنية حيث أخذ يتحدث الى ضابط عراقي كان يشبهه بشكل ملفت للانتباه، وأوصاه بأن يهتم بي، كان غزوان يتحدث الانجليزية بعناية ويلتزم بقواعدها النحوية وكان يضحك عندما يخطئ لغوياً.
ولذا طلبته هاتفياً، فإذا برجل عجوز يرد علي، قلت له إنني أريد التحدث إلى غزوان «لماذا؟» جاء رد الرجل فقلت له لأنني أريد أن أعرف متى سيأتي إلى المطار وسمعت صوت أنين على الطرف الآخر من الهاتف «لقد قتل» هكذا كان رد الرجل. جلست بعد سماعي الخبر على مقعدي البلاستيكي في المطار عاجزاً عن الحديث.
وقلت للذي أهاتفه: ماذا؟ ماذا تعني. «لقد قتل على أيدي العدو»، هكذا كان رد الرجل العجوز الذي أخذت منه سماعة الهاتف بعد ذلك. وتأتي إمرأة شابة تتحدث انجليزية جيدة لتمسك بأطراف الحديث وتسألني: «من أنت؟» فقلت أنا مسافر انجليزي، وبدأت أعتذر، وأقول إن أحداً لم يخبرني بأن غزوان قد مات، فحتى وكلاء السفر في بيروت مازالوا يضعونه على قائمة الأشخاص الذي يمكن الاتصال بهم في بغداد.
أخذت المرأة الشابة ـ التي هي زوجته أو بالاحرى الآن أرملته ـ تتمتم بأشياء عن أنه قتل وهو في طريقه الى المطار، وأسألها بدوري عن توقيت حدوث ذلك، تقول: «في الرابع عشر من مارس». لقد رأيته آخر مرة قبل وفاته بخمسة أسابيع بالضبط.
وتتضح لي قصة ما حدث له، لقد كان له أخ يعمل حارس أمن في المطار، وأعتقد أنه كان الشخص الذي كان يتحدث معه ويشبهه الى حد كبير، فقد خرج الاثنان سوياً متوجهين إلى عملهما في سيارة واحدة عندما فتحت عليهما النار مجموعة من المسلحين قتلوا أخاه وقتلوا في آن، وأعرب عن آسفي بشدة لمطلقته التي تعرب لي بدورها عن تقديرها وتنتهي المكالمة.
وسلمت بالأمر، وعدت الى بيروت وشاهدت البابا الجديد في زيارة لبلده الأصلي المانيا، وشاهدته وهو يلتقي الجالية اليهودية في مدينة كولونيا الألمانية، وتحدث الباب عن فظاعة وشرور المحرقة اليهودية، وكان ينبغي له ان يتحدث عن هذا، وتحدث بلطف عن اسرائيل، ولماذا لا يفعل هذا؟
ثم يلتقي الجالية المسلمة الذين أشاهدهم على شاشة التلفزيون ورؤوسهم محنية يحاولون استراق النظر الى الكاميرات، وأخذ الباب في التحدث إليهم عن شرور الإرهاب، كل هذا بدا منطقيا وذلك على الرغم من أنني لم أستطع أن أنسى علمي بأن البابا كان من المحاربين الألمان الذين كانوا يستخدمون المدافع المضادة للطائرات. فهو يقاوم الإجهاض وزواج الشواذ وكذلك يقاوم الطائرات.
ولكنني وجدت نفسي بعد ذلك أقف أمام الشاشة، فطوال حديثه لم ينبس ببنت شفة عن احتلال اسرائيل للضفة الغربية ولا عن توسعها في بناء المستوطنات على أراضي الغير في انتهاك صريح للقانون الدولي، وفضلاً عن ذلك كان حتمياً ان يتم تذكير المسلمين بخطاياهم وبأنهم يجب عليهم نبذ «الإرهاب» والدعوة الى الاعتدال في جميع الأوقات وإيقاف سوط الأعمال الانتحارية.
وبشكل مفاجيء صدمت بافتقار الباب الشديد الى ملكة الحكم على الأشياء بشكل صائب، ولكنني وجدت أنني أعلم سبب ذلك وأتماشى معه بنوع من الخنوع. فوظيفة البابا تقتضي منه ان يتقدم بالاعتذار الى يهود أوروبا، أليس كذلك؟ وتقتضي أيضاً ان يحذر مسلمي أوروبا، أليس كذلك؟ إذاً هل ينبغي لنا ان نتماشى مع الأمر الواقع؟
نعم ينبغي له ان يعتذر عن المحرقة اليهودية إلى ما لا نهاية، ولكن ألا ينبغي أيضاً لقداسة البابا الذي كان محارباً يعمل على المدافع المضادة للطائرات، ان يعتذر أيضاً للمسلمين عن الغزو الكارثي والدموي للعراق لا، لا، ليس هناك وجه مقارنة بين الاثنين من ناحية حجم ودرجة شر ما حدث.
ولكن ألا يتمتع هو على الأقل بدرجة الشجاعة التي أبداها سلفه الذي وقف معارضاً لجورج بوش ولحربه الشرسة على العراق. اقرأ أحدث قوانين «مكافحة الإرهاب» البريطانية بالطبع، بالطبع. بعد التفجيرات الانتحارية في أنفاق لندن، ماذا عسانا أن نتوقع؟ يجب حماية عاصمتنا النفيسة وأهلها.
ففي ضوء أنني كنت على بعد ثلاث أو أربع عربات قطار من محطة أنفاق كينغزكروس التي انفجرت في السابع من يوليو، فإنني أتعامل مع تلك الأشياء من واقع أنها تمثل خطراً على نفسي. ولو كنت أنا هناك في أنفاق لندن اليوم فإنني في أغلب الظن سأحاول تجنب هؤلاء الذين يحملون حقائب على ظهورهم وكذلك تجنب شرطة العاصمة.
وبعد كل تلك الادعاءات في الصحف التي تحدثت عن القدرات الكبيرة لقواتنا الأمنية، أرى أنه يجب أيضاً إلقاء نظرة عن قرب على ما يقوله هؤلاء الناس الأبطال. فهؤلاء هم الرجال (والسيدات) الذين خدعونا وكذبوا علينا بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق. هؤلاء هم الناس الذين لم يستطيعوا التنبؤ أو التحذير من حادثة تفجير واحدة من تلك التي وقعت في السابع من يوليو (أو الهجمات غير المميتة التي وقعت بعدها).
هؤلاء هم الناس الذين صرعوا مدنياً لا ذنب له أثناء جلوسه في محطة الأنفاق. ولكن لنتوقف للحظة. إن السابع من يوليو يوم هادئ إذا ما قورن بيوم من أيام بغداد. لقد كنت هناك في محطة حافلات النهضة عندما قطعت عبوة ناسفة أخيراً أشلاء 34 مدنياً هم في نفس براءة قتيل لندن وأرواحهم نفيسة تماماً كأرواح ضحايا تفجيرات لندن.
في مستشفى الكندي، يجد أقارب الضحايا صعوبة في التعرف على جثث القتلى رأس الجثة موضوعة بجانب جسد لا يخص صاحبها، والأقدام موضوعة بجانب سيقان لا تخص صاحب القدم. هناك مشكلة واقعة هناك، وعلى الرغم من ذلك لا يصدر صوت أنين من بريطانيا. نحن ما زلنا أسرى لمأساة السابع من يوليو. ليس هناك قوات بوليس سري تجوب أنحاء موقع انفجار السابع من يوليو بحثاً عن خيوط لكشف ما حدث.
لقد وقعت بالفعل أربعة تفجيرات بعد ذلك. وجرى نسيان ما حدث في النهضة ثم تفتق ذهني وأنا جالس في شرفتي المطلة على البحر الأبيض المتوسط عن فكرة أننا أفرطنا في التسليم بالأمر، نحن نميل إلى أن نأخذ فترات قليلة ننفصل فيها عن حياتنا.
قد يكون هذا خطأ الصحافة اليومية حيث نقوم بتلخيص أحداث العالم كل أربع وعشرين ساعة ثم ننام، وبعد ذلك نبدأ بتاريخ جديد في يوم تال نفشل فيه في إدراك أن القصة التي نتناولها لم تبدأ قبل الموعد النهائي لها في الليلة الماضية ولكنها بدأت قبل أسابيع وأشهر وسنوات.
ولأن الأمر حقيقة، ألا يمكن القول بأنه لولا غزو العراق لما وقع هذا الحادث الذي صرع فيه 43 عراقياً نتيجة انفجار ثلاث قنابل؟ ولولا غزو العراق لما وقعت تفجيرات السابع من يوليو في لندن (وهنا أنا أتجاهل هراء اللورد بلير بشأن «الأيديولوجيات الشريرة»).
ولولا غزو العراق لما وعظ البابا المسلمين الألمان بشأن «الإرهاب» كما قام أخيراً. وبالطبع لو لم نغز العراق، لكان غزوان ما زال حياً ولكان أخوه ما زال حياً، ولكانت مطلقته الغارقة في حالة من الحزن الآن بسبب مقتل زوجها لا تزال زوجته السعيدة بحياتها معه ولكان أبوه المحطم قلبه الآن أباً فخوراً. ولكن كما اعتاد صديقي القول: «هكذا نسير».
ترجمة: حاتم حسين
عن «الاندبندنت»