نسيج اليُتم عند ديكنز

كثيرة هي روايات اليُتم والأيتام، وقليلة تلك التي تهدف إلى دعمٍ نفسي، وسواء كانت معاناة ذهنية أو فقد الوالدين، فكل الكِتَابَات من هذا النوع نُشرت لتؤسس وجودهم الذاتي، وصوت لتبيان الاستغلال، مع كيفية إعادة بناء الثقة في رحلة حياتهم مع الفقد، ولعل الأشهر هي رواية «ديفيد كوبرفيلد» للمؤلف تشارلز ديكنز، عن رحلة الطفل اليتيم في مراكز الإصلاح، والنتيجة ظلت الرواية متربعة على عرش الروايات اليتيمة لأكثر من قرن ونصف القرن، إلى ظهور اليتيم هاري بوتر الذي طغت شهرته في الألفية الجديدة بسبب العالمين المختلفين لوالديه، من إنس وجن ارتبطا لينجبا هاري، ويفارقانه بالوفاة، وهذا ما يفسر جذب القارئ لقدرات هاري من العالمين، لما في مضمونهما من واقعٍ وخيال.

لكن رواية ديفيد كوبرفيلد والتي نشرت عام 1850م، توضح ظلم الأقوياء والمتمكنين وهم يستغلون الضعفاء والعجزة في عقر دارهم، كزوج أمه، وعدد كبير من الشخصيات في السرد، وهم من الطبقات الاجتماعية المختلفة، وكانت تزداد معاناةً أثناء سرده ورسمه الصورة المختلفة عن العصر الفيكتوري وحقائقه بطريقة غير مباشرة.

ولأن الرواية سيرة تشارلز ديكنز الذاتية، فإنه كتبها وحررها من قلبه لعله يتعافى، إلا أنه دون مبالغة وَرّثَ اليُتم والعَوَز لأبنائه وأحفاده من بعده، الذين اتخذوا من الدولة معاشاً لهم كأيتام ومعوزين ... وحتى بيته الذي زرتُهُ العام الماضي، والذي تحول إلى متحف تشارلز ديكنز في لندن، أيضاً لم يكن يملكه، بل كان يقطنه كإيجار بعقد مدته ثلاث سنوات لا غير، صحيح أن مكوثه فيه كان مثمراً بإنتاجه عدداً من الروايات، لكنه عاش في منازل عديدة للإيجار، في فترات اقتصادية جيدة وسيئة حسب المدخول من الكتابة، وحتى حين تم إدراج المنزل في قائمة التراث العالمي عام 1954م، لم يكن يحدث، لولا الجمعيات الخيرية التي اشترت العقار وجددته تحت إشراف مؤسسة مستقلة بعد جمع مقتنياته وعرضها فيه.

في ذكرى مئوية ديكنز عام 1912م، خرج أحفاده وحفيداته لإطلاق نداء عام من أجل جمع التبرعات لهم، ورسائل متوسلة، لعدم القدرة على العيش.. ومن هنا، واستناداً على سُلالته وما لحق بهم، أستطيع أن أقول إن تشارلز ديكنز ورّث أبنائه وأحفاده مشاعر يُتمه، وأقل من 15 باونداً، ومجلة ترأس تحريرها ابنه، أُغلِقت فيما بعد ... وظل الأحفاد على الشؤون الاجتماعية. ولولا استفادة أحفاد الأحفاد من ريع كتب جدهم قبل عقود قليلة فقط، لأصبح اليُتم في سلالته حالة ظلامية مستمرة، فاليتم لا يعرف الموهبة أو الشهرة.. بل حالة شعورية لا تنطوي.