الدهشة لا تُعاد

في الفن والأدب، كما في الحياة، لا يعيش المتشابهون طويلاً، لأن الدهشة لا تُستنسخ، وكل أصلٍ لا يُورّث نوره، فحين يظهر صوت غنائي جديد، يشبه صوتاً عرفه الناس من قبل، يظنّ الجمهور في البدء أنه امتدادٌ له، غير أنه لا يلبث أن يكتشف أنه أمام ظلٍّ لا يُنير، فالأصل قد أخذ النور كلَّه، ولم يبقَ للنسخة سوى خفوتٍ يحاول أن يتذكّر، والجمهور لا يتّسع سمعه لاثنين من اللحن ذاته في زمنٍ واحد، فيختار المفاجأة الأولى، والدهشة التي لم تستهلك بعد، لتسكن الذاكرة، أما الشبيه فيمرّ كأنه صدى بلا حياة، ويخفت تلقائياً، وتذوب النسخة، وكأنه تأكيد أن البقاء للدهشة التي لا تعترف بالمكرر.

ولعلّنا نتذكّر كيف خفت صوت هدى حداد، أمام أختها فيروز، رغم نقاء صوتها وجماله، والصوتان لا تطابق بينهما، لكنهما متشابهان في صفاتهما الصوتية، ومتقاربان في العذوبة والقوة، والزمن لا يحتمل نغمتين متقاربتين في طبقة واحدة، ولا الجمهور يحتمل نجمتين من النمط نفسه، فخفت صوت إحداهما، وكذلك فعل التقليد مع كثيرين حاولوا أن يكونوا عبد الحليم حافظ، أو أن يكرّر محمد ابن فضل شاكر، صوت أبيه، الشبيه العذب.. عليه البحث عن فنه الخاص، بعيداً عن أسلوب والده، وإلا توارى، فالموهبة حين تسير في دربٍ مأهول، تفقد دهشتها.

التشابه لا يختبر الفنان وحده، بل الكاتب أيضاً، فكل من حاول أن يكتب على طريقة نجيب محفوظ، خفت، واحتفظ محفوظ بالأصل، ومن تشبهوا به بقوا في الهامش، وكذلك كُتاب اللاتين، واستعارتهم إيقاع ماركيز في «الواقعية السحرية»، بدوا كمن يعيدون كتابة المعجزة بخطٍّ باهت، فخسروا التفرد. والأدب كالحياة، لا يقبل المستنسخين، ولا لصدى الآخرين.. الأدب هو احتفاء بالاختلاف، واحتفاء بالصوت الذي يسمعه المرء أولاً في ذاته، قبل أن ينطقه على الورق.

وما أكثر المقلدين لشعر نزار قباني، ومحمود درويش، ومن قبلهما تقليد أبو الطيب.. ولا يتأثر الوجدان.. وهناك أبناء الممثلين يقلدون آباءهم، ويصنعون إعجاباً عابراً، وكل أداءٍ يذكّر بأداءٍ سابق شبيه، يفقد صِدقه، بينما الإبداع في جوهره مغامرة وشجاعة فردية، والدهشة لا تُعاد.