في الكتابات النقدية الحديثة ميلٌ واضح إلى التأكيد على أوروبية الرواية، وكأنها ولدت حصرياً في الغرب، مع أن الأوروبيين أنفسهم لم يستسيغوها في بداياتها حين أطلت الرواية على المشهد الأدبي في أوروبا الحديثة، لم تُستقبل بالترحاب الذي نتصوره اليوم، ونظر النقاد والمثقفون إليها بعين الريبة، ورأوا فيها أدباً أدنى مرتبة من الشعر والمسرح والتاريخ.. كان المعيار الكلاسيكي السائد يمنح الشعر منزلة سامية بوصفه فنّاً يقترب من الحقيقة عبر الإيقاع والوزن، ويمنح التاريخ سلطة لأنه يسجل الوقائع. أما الرواية، فلم تكن سوى حكايات مطوّلة تعتمد على الخيال والمغامرة والعاطفة، وهو ما جعلها تُتهم بالكذب وبإفساد الذوق العام.
ينكر أغلب الناس اليوم أن جذور الحكاية والسرد القصصي هي الشرق، وأن جزيرة العرب أصل حكايات الحب والغرام، من سيرة عنترة إلى سيف بن يزن وحتى حكاية مجنون ليلى التي خرجت من جزيرة العرب وملأت بلاد فارس وآسيا الوسطى والهند وغيرها لتتحول إلى أغانٍ ومسرح وأوبرا... لنجد الشرق قد مارس السرد الطويل والمتسلسل قبل أن تفكر أوروبا في الرواية كجنس أدبي معترف به..
فهناك النصوص الأسطورية الأقدم مثل ملحمة جلجامش في جنوب العراق القديم ونصوص مصر القديمة كلها تشكل تقاليد عريقة من حيث التوظيف التعليمي والرمزي، لا من حيث المتعة فقط، بل كانت أداة للتربية الأخلاقية.. واليوم النقد الغربي يصر على نقاء الرواية الأوروبية وكأنها لم تتأثر بالقصص الشرقية، لتحدث المفارقة، على الرغم أنه في الشرق كان السرد القصصي أداة أصيلة، حيّة، ومحبوبة لدى الناس، في حين كان في الغرب مرفوضاً أول الأمر، ثم تبنوه لاحقاً وأعطوه الشرعية الأكاديمية، أيّ شرعنوا الرواية وأعادوا تصديرها للعالم وكأنها اختراع خاص بهم، بينما القصص الشرقية سبقتها في الزمن والتجربة والوظيفة...
لست متحاملة هنا، بقدر رغبتي في توضيح جذور الرواية وتبيان مفاهيمها التي تغيرت بعد ترجمة أنطوان غالان عام 1704م، لسحر حكايات ألف ليلة وليلة، ومن ثم ترجمة بوكوك رواية حي بن اليقظان للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، مروراً بالسِير الشعبية، لتنهل منها أوروبا مع الوقت، وتؤثر على مخيلتها، فهذه الترجمات هي المحفز المباشر لنشوء الرواية الأوروبية، لأنها كشف طريقة السرد الطويل والقصير والمتشابك والمتعدد، ومن حيث الوظيفة... ويقرأها القراء الذين يبحثون عن المتعة أكثر من بحثهم عن الحقيقة، ترتبط في أذهانهم بالأدب الخفيف، وبالابتعاد عن الصرامة الفكرية التي احتكرتها الأجناس الأخرى، وتتحول الرواية من الخيال المستهجن والمرفوض، إلى الاعتراف.