عودة لأسرة السيد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، التي تحكمها الشساعة في التفسير، بلا شك لم يكونوا يخضعون لمنطق واحد، على الرغم من أنهم يجتمعون في بيت واحد، وطاولة واحدة، يحفظهم إطار المكان تحت سُلطة الأب، وبناءً على مركزية هذا المكان وألغامه المدسوسة في خيمة اللغة، وظّفَ نجيب محفوظ المكان وظيفة خاصة في الثلاثية، عكست الحالة الذهنية للشخصيات وهي تتطور، من السيد عبدالجواد وزوجته أمينة وأولاده وبناته.. نجد كلاً منهم مرتبطاً بذات المكان، يتطورون فيه، لكنه في الواقع مكانٌ يعكس الحرب النفسية للشخصيات، ومعضلاتهم، فقد حوّل محفوظ المكان في الرواية رمزاً يمثل صحة المجتمع المصري، وبشكل غير مباشر، لنجد الأبطال يكبرون وفق رب الأسرة المتناقض بين خطابه في البيت، وخطابه الخارجي المبتذل في سهرة العوامة، بينما أمينة زوجته الطيبة خاضعة وخانعة في البيت (المكان) بلا صوت، ويتطور المكان بالتباينات.
وحتى بعيداً عن البيت، فالشارع (المكان) على سبيل المثال في ثلاثيته، لم يكن فقط مكاناً للرجال والأعمال التجارية.. فالشارع كان بمثابة واجهة لعوالم أخرى، وبمعنى أوضح، مكان للتعبير عن المحرمات.. والوجوه في الشارع، مخفية في أمكنة أخرى، مُبَيّناً التناقض من خلال الوجه الآخر، كما هو السيد عبدالجواد بين المكانين (البيت والشارع)، وحتى المقهى في الشارع، حيث الكراسي المصفوفة، المقابلة لنوافذ الأرابيسك، تناظرها العيون وهي تشرب الشاي من أجل أن تستيقظ، دون أن تستيقظ.
الدقة الوصفية للأمكنة التي تحمل حقيقتها التاريخية في هذه الرواية، تحمل أيضاً الطابع الواقعي للمكان، مثل خان الخليلي، والأزقة، والمحلات، والمنازل، والمشربيات، والمساجد، مثل مسجد الحسين، والأسواق.. ففي عمقها ليست أمكنة.. هي شخصيات وذوات تتمحور خيالاً في أحداث الثلاثية، مثل حيّ الجَمَالية، الواقع في قلب القاهرة، وتسمى بالقاهرة الإسلامية، بسبب آثارها التي تعود للعصر الفاطمي، وهي أحياء للطبقة العاملة، وقد عاش فيها نجيب محفوظ بنفسه، ولم يغادرها.. تبقى الأمكنة تاريخية، والخطاب خيالياً، بينما الحقيقة السردية تذهب إلى كل ما شكل المجتمع المصري، ليخلق أحداثاً واقعية تعتمد على وصف تفصيلي للبيت والحيّ الذي أوجد فيهما شخوصه، يصفها بمفردات وكأنه يعيد بناء جغرافية المدينة، لنشعر نحن كقراء، بأن القاهرة هي التي تروي الشخصيات.
وأخيراً، فالثلاثية عمرها الآن سبعة عقود، لم تنطوِ بعد، وها هي تكسب رؤى جديدة مع القراءة المكررة، كشفاً عن أمكنة أخرى.