المتنبي عالم اللغة «2»

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت الحالةُ الثقافية في القرن الرابع تطوراً في العلوم؛ كماً ونوعاً، وحظيت كلها بدعم الخلفاء والأمراء، وحسبك أن بلاط سيف الدولة الحمداني كان مهيعاً خصباً لعشرات الأدباء والشعراء والعلماء.

هذا الطريق إلى المكارم ‌مهيعاً

فاسلك فقد أبصرت قصد المهيع

وكان على رأس الشعراء «المتنبي»، وعلى رأس اللغويين «ابن خالويه»، فنشأت علاقة بينهما، أشبه بالمعارك العلمية والأدبية، لتستمر في رعاية سيف الدولة تسع سنوات سمان من (337هـ- 345هـ). ويظهر لي أن سببها يرجع إلى علم المتنبي وتضلعه في اللغة، وسؤال سيف الدولة له في حضور ابن خالويه، مما أثار حفيظة الآخر وتبييت النية للمكر والإيقاع به.

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍ: وَفِي الْبَعِيرِ سُؤَالٌ جَرَى فِي مَجْلِسِ ‌سَيْفِ ‌الدَّوْلَةِ،‌ وَكَانَ ‌السَّائِلُ ابْنُ خالويه، والمسؤُول الْمُتَنَبِي، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَالْبَعِيرُ أَيضاً الْحِمَارُ... أَلقيته عَلَى الْمُتَنَبِّي بَيْنَ يَدَيْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ فِيهِ خُنْزُوانَةٌ – أي كبر- وعُنْجُهِيَّة، فَاضْطَرَبَ، فَقُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْبَعِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)، الحمارُ، فَكَسَرَتُ مِنْ عِزَّتِهِ. وقد استشهد ابن خالويه لقوله بأن آل يعقُوبَ كَانُوا بِأَرْضِ كَنْعَانَ -فلسطين- وَلَيْسَ ثمة إِبل، وكَانُوا يَمْتَارُونَ عَلَى الْحَمِيرِ. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)، أَي: حِمْلُ حِمَارٍ.

قلت: استدلاله هذا ضعيف لأمور: 1 - لأنه حَكَمَ بأن أرض فلسطين ليس فيها إبل، وفي ترجمته أنه زار اليمن وذمار، وانتقل إلى حلب فاستوطنها. ولم يزر فلسطين، ولم يَنقُلْ عن فلسطيني ذلك، ومن المعلوم أن أبا الطيب زارها ومكث فيها مدة، فهو أعلم بما فيها. 2 - قال الماوردي في تفسيره: وفي حمل البعير وجهان: أحدهما: حمل جمل، وهو قول الجمهور. 3 - الأصل في كلام الله الحقيقة، ولا يصار إلا المجاز إلا إذا تعذر ذلك. 4 - وأخيراً، فإنني ولدت وعشت فيها، وما زالت الإبل موجودة فيها!

وآسفني أن أحداً ممن ذكر المناظرة بين الرجلين انتصر للمتنبي، حتى من أشد المتعصبين له، أمثال العلامة محمود محمد شاكر، رحمه الله.

ولعلنا فيما يأتي نلقي الضوء على مناظرات أخرى.

Email