ثقافة الاستمطار

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تاريخنا القديم، أي قبل الأديان في سواحل الخليج وجزيرة العرب، وحين تتباعد أيام المطر لتصبح شهوراً أو سنينَ، كانت صلاة الاستسقاء تقام بشكل مختلف، حيث تقف الفتيات ذوات الشعر الطويل بأنواعه المجعدة والمسبلة والعطرة من أجل «النعش» تقفن كجماعات في صفوف مستقيمة أو دائرية أو مربعة تحركن الرأس يمنة ويسرة وهو ما يسمى بنعش الشعر، بهدف جلب الريح ومناجاتها عطفاً لتكويم السحب واستمطارها في الأرض العطشة.

عادة تليدة لعلمهم الشديد أن الرياح إذا هبت إعصاراً أو زوبعة تبقى المسؤولة عن هطل المطر، لذا بقي نعش الشعر للفتيات من الصلوات القديمة، تحوّل مع الزمن إلى عادة تعبّر عن السرور في احتفالاتنا السعيدة، خاصة في مناطقنا الحارة والجافة، وهو في الأصل طقس يتعلق بالمطر وفتنة حضوره.

نحن نعيش على أرض عطشة ومنذ زمن طويل وقد تبدلت الكثير من المصائر بسبب شح الماء، وعانى مَن سبقونا مِن أمر الظمأ، لكن الوعي بثقافة الماء وأمننا المائي زاد مؤخراً، وتطور حتى استتبعه فتح برنامج لعلوم الاستمطار الذي أطلقته وزارة شؤون الرئاسة في الدولة، لنختبر قدرة الحياة فينا بفخر مع التكنولوجيا كثقافة مكملة لفكرة الأصل، ونيّة متقدمة في جلب الغيث، مؤدياً البرنامج دوره الفني على أكمل وجه بعد أن أصبحنا نملك مهارات علمية، فالمتتبع لمسيرة البرنامج يرى نتائجه بعد أن شهدنا قبل أيام تباريح المطر هنا وهناك.

التركيز على ثقافة البيئة جزء طموح فينا ويُؤخذ بعين الاعتبار انطلاقاً مما لدينا من مؤسسات معاصرة ومبتكرة، ولطالما راودنا شعور غامض لرقصات نعش الشعر كموروث مبهم قد عبر الزمن، نستحضره اليوم ونربطه بالنظم الحديثة، فالتفاعل بيننا وبين الطبيعة سلوك ثقافي موروث ومستمر نجده اليوم مبتكراً في الأنظمة التكنولوجية والنظريات العلمية واهتمام الدولة ودورها في تعاملها مع الماء وهي تتحدى العالم المتنامي في هذا المجال، بوضعها كل ما هو مبتكر، والذي منها برنامج علوم الاستمطار الذي نفّذَ مؤخراً أكثر من 50 طلعة جوية لاستمطار السحب فوق مختلف مدن الدولة.

أما نعش الشعر ومحاولات الاستمطار القديم الذي بقي أثره فينا، فنرى آثاره باقية من خلال حرص الأهالي إلى اليوم ورغبتهم الشديدة في نمو الشعر وبشكل سليم والاهتمام بتضفيره وتبخيره وتعطيره لإطالته، دون أن نعي أنه كان طقساً مهماً لمفهوم جلب الخير وفألاً لليُمن واستمراراً للبركة، فإلى الآن تنصح الأمهات بعدم جذّ الشعر كي لا ينقطع الرزق والجمال والنماء.. لقد شكلتنا العوامل البيئية وما زالت تشكلنا من أجل الاستمطار، وشأننا شأن غيرنا نناقش أصل الفكرة واستمرار الذاكرة في تعاملنا مع البيئة.

Email